المسيحية في العراق
المسيحية العراقية
في اوائل القرن السادس قبل الميلاد سقطت (بابل) وهي آخر عاصمة لدولة عراقية مستقلة. حينها سيطر الايرانيون على (بلاد النهرين) وراحوا يتبنون بالتدريج الميراث الحضاري العراقي، وابسط مثال تبنيهم لـ( يوم نيروز) الذي كان يوما مقدسا عراقيا بأسم(حاجتو ـ يوم الحج)، وهو اليوم الاول من السنة العراقية الجديدة التي تبدأ في اول ايام المنقلب الربيعي، وفيه يعود (تموز ـ اله الخصب الذكوري) الى الحياة ليخصب (عشتارـ الهة الخصب الانوثي) وتعود الخضرة والحياة الى ربوع النهرين. منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي، أي خلال اكثر من الف عام، استمر العراق تابعا للدول الاجنبية، واصبح ساحة للصراع بين القوتين الاساسيتين في المنطقة حينذاك: القوة الايرانية والقوة الاوربية (اليونانية ثم الرومانية ثم البيزنطية)، ولكن الهيمنة الايرانية كانت هي الاقوى والاكثر استمرارا. ولم تنتهي هذه الحالة إلا بالفتح العربي الاسلامي .
ان هذه القرون الطويلة المضطربة تشبه كثيرا تلك الحقبة التي عاشها العراق بعد سقوط بغداد وتحوله الى ساحة للصراع الايراني العثماني، حتى الفتح الانكليزي وقيام الدولة الوطنية.
اما بالنسبة للعراقيين خلال تلك القرون التي اعقبت سقوط بابل، فانهم قد فقدوا الكثير من ميراثهم الحضاري العريق، مع فقدانهم لاستقلاليتهم السياسية. لكنهم تمكنوا من الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية رغم كل الضغوطات الحضارية الايرانية والاوربية. فهم بقوا متمسكين بلغتهم الآرامية(السريانية) التي هي امتداد للغتهم السابقة الاكدية(الآشورية البابلية)، وكذلك حافظوا على خصوصيتهم الدينية، حيث بقوا على (ديانة الخصب)(السومرية البابلية الآشورية)، حتى القرن الثاني الميلادي. بعدها تحولوا بغالبيتهم الى المسيحية، بل انهم صنعوا مذهبهم المسيحي الخاص بهم وهو (المذهب النسطوري).
انتشرت الكنائس المسيحية في جميع انحاء بلاد النهرين واصبحت مدينة ( المدائن) مقر الكنيسة النسطورية العراقية الرسمية ومقر المرجع الاعلى(الجاثليق)، واطلق عليها (كنيسة بابل)، لكن المؤرخين المستشرقين من ذوي النوايا السيئة يفضلون ان يطلقوا عليها(كنيسة فارس)!
وقد عان المسيحيون العراقيون من اضطهاد الدولة الايرانية بسبب اصرارهم على نشر المسيحية في ايران بحيث تمكنوا من نشرها حتى في داخل البلاط وعائلة الشاه. بل ان اللغة السريانية العراقية اصبحت اللغة الثقافية الاولى في الامبراطورية، وانحصرت اللغة البهلوية في الجانب الاداري. لهذا بدأ كسرى الأول منذ عام 98ميلادي حملة اضطهاد واسعة، تواصلت خلال قرنين لاحقين، حيث قام الملوك الفرس من أبناء كسرى وأحفاده وقوّادهم بمواصلة حملات التنكيل والاضطهاد والقتل خلال قرون. وتعتبر الفترة الواقعة بين عام 339ـ 379 ميلادي من اكثر عهود الاضطهاد المسيحي حيث سميت بفترة الاضطهاد الأربعيني ، حيث دامت اربعين عام، ابان فترة الملك سابور الثاني..
رغم الاضطهاد، تمكن المسيحيون العراقيون من ابداع أدبا لاهوتيا وفلسفيا رائعا، فقد بدأه طاطيان المولود في بلاد اشور في أوائل القرن الثاني للميلاد / بالدياطسرون/ وهي ترجمة الأناجيل الأربعة بالسريانية مضمونها وما أضافه عليها ثم تلاه مليطون السرديني وبرديصان ومدرسته بنهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث، وقد برز من اشهر المؤرخين وكتاب السريان في القرنين الثالث والرابع "مار افرام السرياني"،الذي خلف مجموعة ضخمة من الأعمال الأدبية والدينية والفلسفية والتاريخية من شعر ونثر، وقد أرّخ حوادث حصار نصيبين من قبل الفرس شعرا من عام 350-370م كما كان قد أقام أكاديمية في نصيبين ثم هجرها إلى الرها بعد أن استولى عليها الفرس وأسس هناك أكاديمية أخرى، ويبلغ ما تركه مار افرام من اثر ثلاثة ملايين من الأسطر شملت مختلف نواحي الحياة.
وأثناء الانشقاقات المذهبية قدم السريان أدبا رائعا في جميع مناحي الحياة وبالأخص خلال المجادلات الدينية التي جرت بين النساطرة واليعاقبة، وقد كان للمدارس التي انشؤوها في كل من نصيبين والرها وجنديسابور وقنسرين، دور كبير في نبوغ الادباء والعلماء الكبار مثل يعقوب النصيبيني وبار صوما ونرسي ويعقوب البرادعي، ومن العلماء سرجيس الرأس عيني وغيره، ومن كتاب التاريخ يشوع العموني وتاريخ الرها للمؤلف المجهول ويوحنا الافسسي وزكريا المدلل.
الحيرة المسيحية
لقد تعودت وجهة النظر القومية، اختصار تاريخ العراق منذ سقوط بابل حتى الفتح العربي الاسلامي، أي اكثر من الف عام، بتاريخ (مدينة الحيرة) و(دولة المناذرة) فقط! بينما الحيرة وسكانها لم تشكلا سوى جزء بسيط من سكان العراق انذاك. ولكن في كل الاحوال يمكن اخذ مجتمع الحيرة كنموذج مصغر من عموم المجتمع العراقي.
كان للحيرة، في الوسط قريباً من النجف، دورها في توطيد المسيحية في غرب العراق ونشرها بين القبائل الرحل من عرب وآراميين، بل نشر المسيحية والثقافة العراقية الى الجزيرة العربية والحجاز على الاخص. مما ساعد على تقبل المسيحية العراقية، ان النسطورية كانت مخالفة للكنيسة البيزنطية والكنيسة السورية، وهذا عموما مريح للدولة الساساسنية الحاكمة. انتشرت النسطورية عن طريق عدد من ملوك الحيرة وزوجاتهم وعوائلهم. ولمنـزلتها المسيحية أيضاً صارت الحيرة داراً لرفات عدد من الجثالقة العظام في تاريخ الكنيسة الشرقية، منذ القرن الخامس الميلادي وحتى بعد دخول العرب المسلمين إلى العراق بفترة طويلة، منهم: داد يشوع (456)، بابوي (484)، آقاق(496)، حزقيال (581)، ايشوعياب (595)، كوركيس(681) وإبراهيم (850). وأصبحت ملجأً للجاثليق الذي كان مركزه المدائن غالباً، ففي الأزمات الطارئة بين المسيحية والملوك الساسانيين، يضطر إلى تركها، فحدث أن غادر (ايشوعياب الأول الأرزني (582-595) إلى الحيرة، والاجتماع بالملك النعمان بن المنذر، وهو أبو قابوس، وكان المنذر قد تنصر حديثاً سنة 593، وصار يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري، وأصبحت الحيرة، حاضرة ملكه، من معاقل هذا المذهب، وهناك وافت المنية الجاثليق، فتولت شؤون دفنه هند الصغرى أخت النعمان .
ومن المفارقات أن أختي المنذر الثالث (512-554) هند الصغرى ومريم كانتا مسيحيتين مع والدتهما ( وقد تعاونن جميعهن في تأسيس دير شهير ) أهلت المسيحية، وهي خارج السلطة، الحيرة لتخليها عن شريعة سلفها اليهودية والأديان المحيطة بها، التي تقر قطع اليد ورجم النساء وقتل المرتد واخذ الجزية والتدخل بشؤون الناس الخاصة، من تحريم وتحليل المشارب والأطعمة، في أن تكون دوحة للعلم والثقافة والعمران، يضاف إلى ذلك ما ورثته من حضارة بابل، فالإنسان الحيري هو بابلي بالأصل، لذا (كان العباديون أكثر أهل الحيرة ثقافة، حذق بعضهم الصناعات، ودرس بعضهم العلوم، وفاق بعض آخر في اللغات، فحذق العربية وتعلم الفارسية، وكانوا يتقنون في الغالب لغة إرم، بحكم تنصرهم، واعتبار النصارى لها لغة مقدسة، لأنها لغة الدين، لذلك كان لهم وجه ومقام في الحيرة، ولهذا السبب اختار الفرس تراجمهم، ومَنْ كان يتولى المراسلة بينهم وبين العرب من مسيحيي الحيرة). ومن الحيرة امتدت الصلات بين قريش والعراقيين، فانعكس ذلك فيما بعد على ما بين الإسلام والمسيحية، عبر الصلات التجارية، فكان بالحيرة (سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية، مثل كعب بن عدي التنوخي، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه أسقفاً على المدينة، وكان يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع عمر بن الخطاب في تجارة البز،وكان عقيداً لهم).
الفترة العربية الإسلامية
عندما فتحت الجيوش العربية الاسلامية العراق في القرن السابع الميلادي، وجدت امامها حوالي سبعة ملايين عراقي، لغتهم الثقافية والدينية هي (السريانية)، بما فيهم الجماعات العربية في امارة المناذرة في الحيرة. اما من الناحية الدينية فأن غالبيتهم الساحقة تابعين للكنيسة النسطورية، وهنالك اقليات من اتباع الكنيسة اليعقوبية(السورية السريانية) وكذلك اليهود والمندائية( الصابئة).. لقد رحب المسيحيون العراقيون بالفاتحين المسلمين، إذ كان للصراع الدائر بين الروم والفرس تأثير سلبي كبير على حياتهم المادية والدينية، وهذا ما أدى إلى كره السريان ويأسهم من كلتا الدولتين، فكانوا يطمحون إلى التخلص من هذا الاستبداد بأية وسيلة كانت، لذا عندما جاءت الجيوش العربية الإسلامية عام637 م إلى بلاد النهرين ورحب بهم العراقيون أملا في التخلص من واقع الظلم والاستبداد الذي ذاقوه من قبل الفرس والروم مئات السنين، وقد حصلوا فعلا على عهود بالأمان من قادة جيوش المسلمين ومن الخلفاء.
وقد استعان العرب المسلمون بالسريان وبالأخص الشرقيين مثل سمعان بن الطباخين وغيره في ترتيب أمور الدولة وتنظيم الأجهزة الإدارية وتنظيم الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية ومن اشهر علماء السريان الذين أتحفوا الإنسانية بعلومهم حنين بن اسحق وأبي بشير ويوحنا بن جلاد ويحيى بن عدي والكندي وآل بختيشوع وغيرهم، الذين ألفوا وترجموا ونقلوا مختلف العلوم من طبية وفلكية وعلمية ومن اللغات السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية أتحفوا المكتبة العباسية بمصنفاتهم وعلومهم، ولم يدم هذا الازدهار الثقافي بسبب فقدان العرب السلطة وسيطرة الأجانب عليهم وحتى بيت الحكمة (المكتبة العباسية) كان يديرها السريان الشرقيين وان وظيفة طبيب الخليفة كان يشغل دائما من قبل طبيب سرياني. إن علماء السريان وأدبائهم على اختلاف مذاهبهم قضوا اكثر من مائة عام في ترجمة العلوم القديمة من السريانية واليونانية والفارسية إلى العربية وبفضل جهودهم وأوضاعهم العلمية والثقافية
الفترة المظلمة
وقد كان لتدهور سلطة الدولة العربية الإسلامية وغزو التتار والمغول للعراق دور كبير في اضطهاد السريان ، وقد عانوا الأمرين من جراء الظلم والاضطهاد والتدمير وتخريب الأديرة وحرق المصنفات والكتب الدينية والتاريخية، وبالرغم من اضطراب حبل الأمن في مناطق سكنى السريان فقد ظهر بعض العلماء المشهورين من أمثال يوحنا المعدني وميخائيل الكبير وأبي الفرج ابن العبري وموسى بن كيفا ويعقوب ابن الصليبي والقرداحي وعبد يشوع الصوباوي والرهاوي المجهول وداود الفينيقي وغيرهم، وقد كان لهم دور كبير في نشر الثقافات الأدبية والفلسفية وعلوم الطب والرياضيات والهندسة وغيرها، وقد نشر هؤلاء مختلف الكتب والمقالات الدينية والفلسفية التي كان لها دور كبير في نمو الوعي الفكري في عصر الظلمات.
وان كانت الأحداث التاريخية التي مر بها السريان قاطبة غير مدونة بشكل كامل وذلك لكثرة الاضطهادات والمآسي التي عانوها أو أن ما دون منها اتلف واحرق بسبب المحن التي ألمت بهم خلال هذه الفترة. لقد سال لعاب الاستعمار الأوروبي من اجل نهب خيرات وثروات الشرق فحاول بشتى الوسائل أن يجد له موطئ قدم في هذه المنطقة، فكان أن أرسل المبشرين منذ عام 1550م ليبشروا بمذاهبهم المختلفة، فكان لكل دولة مبشريها المختصين بها حيث كانوا يحصلون أيضا على فرمانات من الحكومة العثمانية تسمح لهم بنشر مبادئهم الدينية بين المسيحيين ضمن سلطاتها. فكانوا يمارسون كافة وسائل الترغيب والترهيب بحجة العودة إلى الدين الصحيح. وللعلم فان هؤلاء المبشرين لم ينشروا مذاهبهم تلك إلا بين المسيحيين فقط أي انهم لم يفكروا بإهداء غير المسيحيين لهذه المبادئ القويمة التي يدعون لها، فكان أن تحولت هذه المذاهب الدينية إلى بسمار جحا. كلما رأت إحدى الدول الأوروبية إن مصلحتها الاستعمارية تضررت في الشرق كانت تتدخل بحجة حماية المسيحيين التابعين لها (أي المنتمين إلى مذهبها الديني). وبالطبع فان هذا كان يخلق ردود أفعال عكسية لدى شعوب المنطقة ضد المسيحيين ومن قبل الدولة العثمانية أيضا وكانوا يدفعون ثمن السياسة اللاإنسانية التي كانت تتبعها الدول الاستعمارية الأوروبية باتجاه الشرق، دون ذنب إلا لكونهم من دين تلك الدول. ليس هذا فقط بل انه في كثير من الأحيان كان يلجا بعض المبشرين إلى نشر الفتن وتأليب الأكراد(جيران المسيحين في شمال العراق وجنوب تركيا، ضد المسيحيين الذين لا يقبلون بمذهبهم الديني للضغط عليهم أو إرغامهم للجوء لطلب مساعدتهم ولقبول مذهبهم الديني وهذا ما حصل في عدة مناطق وبالأخص في هيكاري واورميا. وقد قام المبشرون الكاثوليك بشتى الوسائل لتحقيق غاياتهم فكانوا يشترون ذمم البيكات الأتراك والشيوخ الأكراد لكي يقوم هؤلاء بتحطيم ومحو الآثار السريانية من معابد وكنائس في مناطقهم.
ولم تقف المآسي التي عاناها السريان عند هذا الحد فقط بل إن ما زاد الطين بلة أيضا انقسام المذاهب الدينية أيضا إلى عدة أقسام، نساطرة وكاثوليك ويعاقبة، هذا عدا المذاهب البروتستنتية للمبشرين الأمريكان التي جاءت بعدئذ لتزيد الانقسام والتجزئة فيما بينها من جديد.
من امثلة الاضطهاد الذي عانوه، انه قد بلغ عدد القتلى والضحايا من السريان في جنوب تركيا اوائل القرن العشرين، أكثر من 150 ألف من بلادهم عدا الذين سُبيوا من الأطفال والنساء بالإضافة إلى تدمير ممتلكاتهم وتهجيرهم من بلادهم، كما بلغ عدد الذين هاجروا أيضاً أكثر من مائة الفٍ هاموا على وجوههم خارج الوطن من الاضطهاد وهروباً من الظلم.
التبشير الكاثوليكي والبروتستاني
تعد مدينة الموصل من المناطق المهمة بالنسبة للمبشرين المسيحيين بسبب كثرة أبناء الطائفة المسيحية فيها، إذ عد القرن السابع عشر الميلادي بداية للإرساليات الغربية، فانطلقت الإرساليات الفرنسية تحت رعاية وتنظيم (مجمع التبشير بالإيمان) في روما، فأرسلت لتلك الغاية بعثات تبشيرية متواصلة منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي ومنها إرسالية الآباء الكرمليين الذين كانوا يترددون علي مدينة الموصل. ففي عام 1622 انشأ في روما تنظيم يدعي (مجمع انتشار الإيمان) غايته نشر التعاليم المسيحية الكاثوليكية في الشرق بصورة خاصة، وكانت مدينة بيروت وحلب المركزين الرئيسيين التي ترسل منهما الإرساليات التبشيرية، فانطلقت إلى العراق والى الموصل بعثات تبشيرية مستفيدة من الأقليات المسيحية الموجودة لإنجاح عملها.
كما أن الفرنسيين بداوا نشاطهم في العراق منذ أوائل الحكم العثماني، ولكن لم يكن نشاطهم يلفت النظر، ولذلك تركوا المبشرين الكبوشيون، فالدومنيكان الكاثوليك يعملون دون أن يتعرض لهم احد، وكانت مهمتهم الأساسية تحويل اكبر عدد من الطوائف المسيحية إلى المذهب الكاثوليكي. سعى الكبوشيون في إقامة مركز لهم في الموصل، وأسسوا أول نواة كاثوليكية عام 1636 م، بهدف تحويل النساطرة من مذهبهم الشرقي إلى المذهب الكاثوليكي إلا أن العلاقة التي تربط الكبوشيون بالدولة العثمانية اعتراها التدهور، مما أدى إلى غلق دارهم في بغداد، وإغلاق مركزهم في الموصل، وانتقالهم إلي ديار بكر. ونتيجة للجهود المبذولة آنذاك ازداد عدد المتكثلكين، مما دفعهم إلي الاعتقاد بأنهم قادرين إلي الامتناع عن دفع الرسوم المستحقة عليهم للدولة، فسعى بطاركة القوش النساطرة وبطاركة ماردين اليعاقبة لكبح جماح ذلك التيار الديني المعزز بحماية الفرنسيين، وعمدوا إلى استخدام سلطاتهم الإدارية والقضائية وتوسطوا لدى الحكام، وكانت تهمة تعاون الكاثوليك مع المبشرين الأوربيين (الأجانب) كافية لإنزال العقوبات بهم، فاضطر الكبوشيون إلي هجر مراكزهم في الموصل عام 1724م، ويمكن القول أن مدة حكم الجليليين في الموصل تعد مدة تقدم التبشير الكاثوليكي في شمال العراق.
وقد تمكن الكبوشيون من تكوين أول نواة كاثوليكية لهم بعد تلك المدة في مدينة الموصل من النساطرة الذين أطلق عليهم تسمية (الكلدان) عام 1750م، وبذلك انتعشت الكثلكة من جديد في مدينة الموصل، وعملت من اجل تحقيق أهدافها، وفي عام 1750م نجح الأبوان الإيطاليان فرنسيس طورياني، وعبد الأحد يلشيني، في فتح مركز للآباء الدومنيكيين في الموصل، وسهل مهمتهم كاثوليك الموصل الذين كانوا على علاقة حسنة مع الوالي الجليلي، وتصديهم للفرس مع المسلمين عام 1742م. انتشرت الكثلكة في الموصل، بعد إن كان عدد اسر الكلدان الكاثوليك في الموصل عام 1747م لا يتجاوز العشرات، فأصبحت في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي (1000) أسرة كلدانية. كما دخل النشاط البروتستانتي في الموصل وضواحيها على يد جرانت.
أرسلت الجمعية الإنكليزية جرانت مبشراً لها عام 1843م، وقد صاحبه النجاح في عمله بين الطوائف المسيحية وبمساعدة القنصل البريطاني، الذي وضع كل امكانياته لكسب السريان اليعاقبة والنساطرة والكلدان إلى الكنيسة الانجلكانية. وأصبح واعظاً، وموضع ثقتهم، واحترامهم في ذلك الوقت، إذ طلب منه قساوسة النساطرة أن يبني لهم مدرسة لتعليم الصبيان، فاستغل حاجتهم وأشاع بين الأكراد أن البناية قلعة حربية وان النساطرة يستعدون للهجوم على الأكراد، مما دفع الأكراد إلى أن يهجموا على مقر البطريرك الاثوري واحرقوه، فازدادت الفتنة بين الاثوريين والأكراد، حتى تدخلت السلطات البريطانية بحجة حماية الاثوريين، ووجهت وزارة الخارجية البريطانية عام 1857م كتاباً إلى السفارة البريطانية في القسطنطينية بصدد حماية الاثوريين، وكان غرضها الأصلي إيجاد الخلافات بين أبناء الشعب العراقي.
ولعل الأدوار التي اتخذت في استمرار التبشير لم تقتصر على كرسي الكنيسة فحسب، وانما بفتح أبوابه عن طريق الواجهات المدرسية، والمطبعة التي فتحت في الموصل، كما انه لم يقتصر العمل على الجانب الثقافي بل تعداه إلى الجانب العلاجي، وبخاصة عندما اجتاحت الكوليرا مدينة الموصل عام 1863 ــ 1865م، كما أن الإرساليات التبشيرية قد مارست نشاطات اجتماعية مختلفة لخدمة مبادئ الدول التي أرسلتها. لقد ساهم النشاط التبشيري الأمريكي في مدينة دهوك، التي كانت تابعة إدارياً إلي لواء الموصل في إرسال المبشر (كمبرلاند) الذي كان يدعو المسلمين علناً للدخول في الدين المسيحي، مما أدى إلي قتله من قبل سليم اغا بيسفكي من أهالي دهوك عام 1938م.
التنوع المذهبي والعرقي للمسيحيين
من ناحية الاصول التاريخية والجغرافية والمذهبية، فأن المسيحيين العراقيين ينقسمون الى خمسة اقسام:
الكلدان الكاثوليك
ويشكلون القسم الاكبر من المسيحيين، ويقطن غالبيتهم في بلدات الموصل وعموم شمال العراق، مثل تلكيف والقوش وعينكاوا. كذلك لهم حضور واضح في بغداد والبصرة. وكان الكلدان في الاصل على المذهب النسطوري حتى القرن التاسع عشر، ولكنهم تحولوا الى الكاثوليكية بتأثير عمليات التبشير الاوربية. ويتكلمون بلهجة خاصة قريبة الى السريانية العراقية الفصحى.
الآثوريون النساطرة
وهم من اتباع الكنيسة النسطورية العراقية، وغالبيتهم قد نزح الى بلدهم الاصلي العراق من المناطق المحاذية للموصل في جنوب تركيا، والتابعة تاريخيا وسكانيا الى بلاد النهرين. لكنهم اضطروا الى النزوح بعد المذابح التي تعرضوا لها في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، على ايادي الاغوات الاكراد والعسكر الاتراك، والتي كلفتهم مئات الآلاف من القتلى والمشردين، وكذلك كلفت الارمن معهم حوالي مليون ضحية. ويختلف الآثوريون عن الكلدان، من ناحية المذهب، وكذلك من ناحية طبيعتهم الجبلية، بالاضافة الى لهجتم الخاصة المشتقة ايضا من السريانية. وهنالك من يعتقد ان تسمية (الآثوريين) ليس لها علاقة بـ( ألآشوريين)، بل هي مشتقة من (التورانيين) أي(الجبليين) بالسرياني.
السريان الآرثوذكس(اليعاقبة)
وهم اتباع الكنيسة السورية، وعادة يقطنون في مدينة الموصل ويشكلون عموما نخبة حضرية متميزة. وبعضهم تحول الى الكاثوليكية في القرن التاسع عشر، وسموا أنفسهم السريان الكاثوليك.الارمن== ويعود اصلهم الى بلاد ارمينيا في منطقة القفقاس التي تقع جغرفيا عند اعالي بلاد النهرين، ومنها ينبع نهري دجلة والفرات. وقد ظل الارمن على علاقة تاريخية عميقة مع العراق وظلت هجراتهم اليه طيلة التاريخ. وقد تعرض الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى لمذابح كبيرة في جنوب تركيا، انجزها الاغوات الاكراد واشرف عليها العسكر الاتراك. وقد اجبروا على الهجرة وانتشروا في سوريا وأقطار المشرق العربي ومنها العراق، وكان عدد من دخل منهم العراق (350000) ألف نسمة، لكنهم مع الزمن قد هاجروا الى الخارج، ولم يتبقى منهم غير بضعة عشرات من الآلاف يقطنون في الموصل وبغداد والبصرة. وينتمي القسم الأكبر منهم إلى المذهب الأرثوذكسي ، وقليل منهم إلى المذهب الكاثوليكي.
اتباع الكنائس البروتستانية
وهم عدة كنائس مختلفة، مثل الكنيسة الانجيلية والكنيسة السبتية، وغيرها. وهم عموما من السريان العراقيين الذين تحولوا الى البروتستانية في العصر الحديث، بتأثير الكنائس البروتستانية الانكليزية والامريكية. وهم اقلية من النخب المدينية المتميزة في الموصل وبغداد.
مصــادر
ـ رحلات سبستياني الى العراق / مجلة المورد 9/1980 بغداد .ـ تاريخ نصارى العراق/ رفائيل بابو اسحق / 1948 بغداد .
ـ نزهة المشتاق / يوسف رزق الله غنيمة / 2001 القاهرة .
ـ كتاب اليوبيل المئوي السادس/ مار بهنام الشهيد / 1990 .
ـ يزداندوخت الشريفة الأربيليةج1 ـ ج2 / سليمان الصايغ /1935 الموصل .