اكيتو
عيد الربيع البابلي
جذوره ، أيامه ، عائديتهِ
لم تكن أحاسيس وعواطف وأفراح سكان العالم القديم تختلف عما لدينا اليوم من مشاعر حين قدوم الربيع والخضرة والزرع والورود والثمار والنسيم المنعش المُعطر بروائح الزهور البرية التي تملأ الوديان والجبال والسهول والمراعي الخضراء التي ستطعم كل الكائنات الحية ، لِذا نعلم بديهياً أن كل شعوب العالم لا بد قد إحتفلت بقدوم الربيع بشكل من الأشكال .
تبدأ حكاية أعياد الربيع في أرض الرافدين منذ أزمنة بعيدة يقول بعض العلماء والمؤرخين أنها تقع بين ( الألف الرابع والخامس ق . م ) ، وبعض المصادر تقول أن السومريين والساميين إحتفلوا به منذ عصر ( أريدو -5300 ق. م ) وبالذات في جنوب بلاد ما بين النهرين وبإسم ( زاكموك Zag-mug ) . وكان يُحتفل به مرتين في العام الواحد ، في الربيع والخريف .
أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم قبل وأثناء وبعد السومريين فقد إختاروا له تسمية ( أكيتو ) وتعني : ( الحياة ) والمشتقة من تسمية أقدم هي : ( a-ki-ti-se-gur-ku ) .
هذا العيد كان معروفاً منذ الأزمنة العتيقة لبلاد ما بين النهرين في مدن مثل ( أريدو ، أور ، لجش ، كيش ، أوروك ) ، وكما ذكرنا كان واحداً من عيدين رئيسيين ( زاكموك وأكيتو ) . زاكموك هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير ، كذلك هو عيد الإعتدال الخريفي المتزامن مع موسم قطف التمور ، وكان الإحتفال به يجري في الخامس عشر من شهر أيلول من كل عام ، ويرمز لقدسية نخلة بلاد الرافدين ولتجدد وخصب الأرض المتمثلة بشعائر الجنس في ( الزواج المقدس ) ورمزه الإله السومري ( دموزي ) وزوجته ( أنانا ) واللذين تم إقتباسهما في شخصية الإله ( تموز ) وزوجته ( عشتار ) عند البابليين ، ولاحقاً تم الإستعاضة عنهما في شخصية الإله ( مردوخ ) وزوجته ( صربانيتوم ) أثناء الإحتفال بعيد الأكيتو في بابل .
كان أكيتو في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام ، وكان يُحتَفَل به بين شهري آذار ونيسان ، ويُمثل رأس السنة الجديدة ( الإعتدال الربيعي ) ، ثم أصبح من المتعارف عليه الإحتفال بهِ في اليوم الأول من شهر نيسان كل عام في إقليميَ الوسط والجنوب من بلاد النهرين ، بينما لا توجد دلائل على معرفة هذا العيد في الأقليم الشمالي ( آشور ) قبل سنة ( 1200 ق . م ) ، وذلك حين قام الملك الآشوري ( تيكولتي نينورتا الأول 1214 - 1208 ق . م ) بعد غزوه وتدميره لمدينة بابل بسرقة تمثال الإله مردوخ ونقلهِ ضمن غنائم الحرب إلى بلاد آشور في شمال العراق ، مما حفز الشعب الآشوري على الإحتفال بهذا العيد لأول مرة إقتداءً وتقليداً لإحتفالات البابليين به .
وحول هذه النقطة يقول الكاتب الآثاري ( هاري ساكز ) في كتابه ( قوة آشور ) : [ كانت بلاد بابل مصدر ومركز حضارة بلاد الرافدين ، وكانت العاصمة بابل مركزاً دينياً ذا قداسة كبيرة ، وإن سلب ونهب بابل في العالم القديم يمكن تشبيهه بسلب الفاتيكان أو القدس أو مكة في وقتنا هذا ] .
في مطلع ( الألف الثاني ق . م ) ( 1894 - 1595 ق . م ) زمن السلالة العمورية البابلية الأولى ( سلالة الملك والمُشَرِع حمورابي الذي كان سادس ملوكها ) تم إلغاء الإحتفال بعيد ( زاكموك ) ، وإقتصرت الإحتفالات على عيد الأكيتو فقط . وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان ( نيسانو ) والذي يعني : العلامة ، وفي العربية ( نيشان ) لأنها العلامة أو النيشان على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب وحَبَل الأرض بكل ما هو أخضر .. وهو لون الحياة .
كان الإحتفال بهذا العيد يستمر لمدة ( 11) يوماً متواصلة ، وقد يسأل القارئ عن : لماذا الرقم ( 11 ) في عدد أيام الإحتفال هذا !، والجواب مشروح بدقة في مقال للكاتب والمؤرخ المعاصر السيد ( حبيب حنونا ) والمنشور في مجلة ( المنتدى ) التي كانت تصدر في مشيكان لأكثر من (35) سنة ، العدد 33 لسنة 1998 حيث يقول الكاتب ( بإختصار وتصرف ) : [ لاحَظَ الإنسان في بادئ الأمر أن دورات الطقس والمناخ تتكرر وتُعيد نفسها كل إثني عشر دورة من دورات القمر تقريباً ، فسمى تلك الفترة ( سنة . سنتة . شنتة ) إكراماً لإله القمر ( سن ) ، فقسموها إلى أربعة فصول وسموها بمسمياتها : ( الربيع ) وهو أول فصول السنة وكرسوه للإله ( مردوخ ) الإله الحكيم ورب الكون . يليه فصل ( الصيف ) وكرسوه للإله ( ننورتا ) إله الرياح الجنوبية ورب القنوات والسدود والري ، ثم فصل ( الخريف ) وكرسوه للإله ( نابو ) إله الكتابة والحكمة وإبن الإله مردوخ ، ثم فصل ( الشتاء ) وكرسوه للإله ( نركال أو نرجال ) وهو إله الموت والعالم الأسفل ، معتقدين أن الشمس تكون في منازل تلك الآلهة خلال تلك الفصول .
أما الأشهر الأثني عشر فكانت أشهراً قمرية يبدأ كل منها مع ميلاد قمر جديد ، وإعتبروا الأول من نيسان هو عيد رأس السنة ، لكنهم أدركوا بعد فترة زمنية طويلة أن عيد رأس السنة الذي إعتادوا أن يحتفلوا به في الربيع بدأ يتراجع تدريجياً إلى الوراء بحيث أصبح يقع ضمن فصل الشتاء !!، ثم بعد فترة زمنية أخرى أصبح يقع ضمن فصل الخريف !!، وإستنتجوا من كل ذلك أن الطقس والمناخ تتحكم به منازل الشمس في الكون ، وإن دورات القمر ليست لها علاقة بذلك ، وأن السنة القمرية لا تتطابق مع السنة الشمسية ، وأن هناك إختلاف بينهما هو أحد عشر يوماً ، ومن أجل أن تتناغم الفصول التي تتحكم بها الشمس مع التقويم القمري ، أعادوا صياغة التقويم القمري بإضافة أحد عشر يوماً ما بين نهاية شهر آذار وبداية شهر نيسان ، وأصبحوا يحتفلون بتلك الفترة كرأس أو بداية للسنة الجديدة .
ثم بعدها أدخلوا شهراً إضافياً بعد كل ثلاثة سنوات قمرية ، فإعتبروا السنة الرابعة ذات ثلاثة عشر شهراً ، لكي يكون التقويمان الشمسي والقمري متكافئين ( ولا يزال اليهود لحد الأن يستعملون مثل هذا التقويم الذي إقتبسوه من البابليين أثناء تواجدهم في الأسر ) !.
وبعد أن شاع إستعمال التقويم المُعَدَل أخذ سكان ( بيث نهرين ) يحتفلون بعيد رأس السنة في الأول من نيسان من كل عام ولغاية الحادي عشر منه ، وكانت البداية في بابل ، ولهذا أطلقوا عليها تسمية ( السنة البابلية ) ، ومن بابل إنتقلت إلى ( آشور ) ثم شاعت في كل المدن الرئيسية في بلاد الرافدين ، لا بل تعدت إلى أقوام وشعوب أخرى في المنطقة في عهودٍ لاحقة ، مثل الفرس والأكراد الذين يحتفلون بعيد نوروز في الحادي والعشرين من شهر آذار ( وهو الأول من نيسان حسب التقويم البابلي الأول ) . وفي العراق كانت السنة المالية حتى عهد قريب تبدأ في الأول من نيسان .
لا نعلم بالضبط تأريخ أول مهرجان من مهرجانات رأس السنة ، إلا أنه كان يُحتَفل بهِ في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد إستناداً إلى ما ورد في بعض المدونات السومرية .
لا زال النظام القديم للسنة الرافدية موجوداً في تكوين ( الأبراج ) الذي أوجدهُ البابليون ، لهذا نرى أن برج ( الحمل - نيسان ) هو أول الأشهر والأبراج في شهور السنة البابلية . إستمر البابليون يحتفلون بعيد أكيتو حتى بعد سقوط الدولة الكلدانية الوطنية الأخيرة في بابل على يد قورش الفارسي سنة ( 539 ق. م ) ، والمؤسف أنه عبر مئات السنين وما وصل إليه حال العراق بين مد وجزر الغزوات والإحتلالات وأنواع التسلط الدولي والإستعماري والنكبات من كل نوع ، ضاع معنى عيد الأكيتو ، وكان يُحتفل به بصورة خاصة ومتواضعة قد تكون في بعض السنوات الحبلى بالظلم شبه معدومة !. علماً أن بعض الحكومات الإسلامية في تأريخ العراق كانت قد حَرَمَت وَمنعَت الإحتفال بهِ لإعتبارهِ عيداً وثنياً !. بينما إستمر الإحتفال به عند أقوام أخرى مثل الفرس والأكراد رغم إسلامهم !!، وكما يعرف الجميع فإن مسألة التحليل والتحريم تأخذ دائماً الصفة الإنتقائية والمزاجية في سلوك الدولة الإسلامية ، لِذا شاعت تسمية ( نوروز ونيروز ) بينما إختفت تسمية ( اكيتو ) وإقتصرت على مسيحيي العراق والشام من السكان الأصليين الذين أصبحوا قلة قومية ودينية مقموعة ومُهمشة ومُحاربة مما أدى إلى إنكماش وضمور في أغلب ما يخص كيانهم وحجمهم .
كانت الإحتفالات بهذا العيد تجري في كل المدن التابعة للدولة البابلية يومذاك ، وأضحت من الأهمية والضخامة بحيث كانت تُقام في كل معابد الدولة البابلية التي وصل عددها في زمن الملك الكلداني نبوخذ نصر إلى (1179) معبداً دينياً !. لكن أهم الإحتفالات كانت تلك التي تجري في العاصمة بابل وبعدها تنتقل إلى بقية المدن التابعة للدولة البابلية .
أحياناً كان يُلغى هذا العيد ولا يُحتفل بهِ في بعض السنوات ، بسبب الحروب أو إحتلال العدو للبلاد أو غياب الملك أو غياب الإله مردوخ الذي تم سرقته ونقله لعدة سنوات إلى بلاد آشور بعد أن قام الآشوريون بغزو بابل ، لهذا كانت سنوات من هذا القبيل بمثابة كارثة قومية ووطنية للبلاد !.
قبل الخوض في تفاصيل وطقوس هذا العيد سنلقي الضوء على بعض التفاصيل والأمور المعرفية التي لها علاقة بعيد الأكيتو :
الإله مردوخ البابلي :
هو الإله الوطني لبلاد بابل وشفيعها ، ولَقَبهُ ( الخنشا ) أي : صاحب الأسماء الخمسين التي خلعتها عليهِ الآلِهة بعد إنتصاره على التنين الأنثى تيامات التي كانت تُمثل الفوضى الكونية . مردوخ هو إبن الإله الَذكَر ( أيا ) والإلهة الأنثى ( ذامكينا ) ، وزوجته هي الإلهة ( صربانيتوم ) ويعني إسمها : الفضية . أما إبنه فهو الإله الشاب ( نابو ) إله الحكمة والكتابة .
مردوخ كان يُلفظ في الأكدية ( مار دوكو ) ، ويفسره بعض الآثاريين إلى ( مار ) وتعني : السيد ، و ( دوكو ) بمعنى : الكون ، أي ( سيد الكون ) ، ونلاحظ أن كلمة ( مار ) لا زالت مستعملة عند مسيحيي العراق والشام كلقب للقديسين والأساقفة والمطارنة ، كقولنا : ( مار ابراهيم ) بمعنى ( سيدنا ابراهيم ) و ( مار بطرس ) بمعنى ( القديس بطرس ) وهكذا .
يُمثل الإله مردوخ كوكب ( المشتري - جوبيتر ) وسماه البابليون ( نبيرو ) ، ويعني في اللغة البابلية : ( المعبر ) ، وهو واحد من أسمائهِ الخمسين ، أما حارس مردوخ فكانت الأفعى الحمراء شروشو . ورمز مردوخ هو الثور، واسم مردوخ يعني : ( عجل الشمس ) ، ويُمثل مردوخ رب الأرباب وسيد السماء والأرض وملك كل الآلهة .
في الطقوس الدينية البابلية لم يكن أحد يجرؤ على مناداته بإسم ( مردوخ ) لقداستهِ !، بل كانوا ينادونه ( بيل أو بيلي ) وهي لفظة أكدية تعني "الرب" أو "السيد" سيدي ، وكانوا يُنادون زوجته صربانيتوم ( بيليتيا أو بيليثا ) أي : سيدتي . يظهر مردوخ في تماثيله وهو يحمل ( العصا والدائرة ) ويرمزان للحياة والقدرة على منحهما ، كذلك يرمزان لحيازة السيادة على مجتمعين ونظامين : الرعوي الذكوري والزراعي الأمومي ، فالعصا تُمثل عضو الذكورة ، والحلقة تُمثل فرج الأنثى . ولا زال الأحبار المسيحيين الرعاة من الأساقفة والمطارين في العراق يستعملون عصا في نهايتها العليا دائرة ، وهي رمز القيادة وعلامة الراعي ، ونلاحظ هنا عمق التواصل التأريخي في موروثات بلاد ما بين النهرين .
يقول الرحالة والمؤرخ ( هيرودوتس ) أنه يُقدر وزن تمثال الإله مردوخ الذي كان في الطابق السفلي من برج أو زقورة بابل بِ ( 26 طناً ) من الذهب الخالص !!!، وقد رآه بعينهِ سنة ( 458 ق . م ) !!. وأعتقد شخصياً أن هناك نوع من المبالغة في هذه المعلومة .
أما مهجع الإله مردوخ في الطابق العلوي ( الأنتمينكي ) من الزقورة البابلية التابعة لهيكل مردوخ فلم يكن يضم أي تمثال له ، وفيه دائماً إمرأة فائقة الجمال لخدمته !، ولم يكن يحق لأحد الدخول في ذلك البرج العلوي . وكانت مسيرات إحتفالات الأعياد وخاصةً الأكيتو تطوف حول البرج ، كذلك كان يفعل الحجاج الذين يزورونه من كل أطراف المملكة البابلية . وهذا يُذكرنا بحج وطواف المسلمين حول الكعبة !!.
الإله البابلي تموز :
إسمه السومري ( دموزي ) وعند البابليين الساميين ( تموز ) ، وهو مثل زوجته عشتار كان إلهاً للخصب وتجديد الحياة . واحدة من أسباب شهرته وعبادته يومذاك كانت بسبب زواجهِ من الآلِهة عشتار ( الزهرة - نجمة الصباح ) آلهة الجمال والجنس والإخصاب والحب والعشق والشبق والحرب أيضاً ، والتي قامت كل الشعوب والأقوام القديمة بإقتباس شخصيتها وعبادتها وأعطوها تسميات محلية مختلفة ، لكنها تبقى في الأصل عشتار البابلية وإينانا السومرية .و"إكراماً للإله تموز ، جعلوا من إسمه شهراً من أشهر السنة في التقويم الأكادي ، وهو الشهر الرابع من السنة السامية القديمة التي كانت تبدأ بشهر نيسان" . اسطورة الإله تموز من ضمن الأساطير التي تتناول الموت المؤقت لبعض الآلِهة ، والتي ترمز لدورة الطبيعة السنوية عبر فصولها التي تتماوت في الشتاء لكنها لا تموت .. كما هي الآلِهة أو كما في حالة الإله تموز ، وكان لمثل هذه الأساطير وقع درامي مؤثر جداً على شعوب العالم القديم ، وربما كانت بعضها المُحَفِز الرئيسي لظهور المسرح في العراق القديم ، كونها تتزاحم وتضج بشخوص الصراع الدرامي !. لكل ذلك يعتقد البعض أن المسرح البابلي هو أقدم مسارح العالم ، ومنهُ بالذات أخذَ المسرح اليوناني القديم بداياتهِ الدرامية ال ( ديونسيوسية ) .
قصيدة أسطورة الخلق البابلية :
عنوانها البابلي هو ( إينوما إيليش ) وتعني ( عندما في الأعالي ) . تدور أكثر حوادث هذه الأسطورة الشعرية حول الإله مردوخ وكيف أصبح أعظم كل الآلهة .
مُختصر أسطورة الخلق البابلية :
تتكون هذه الأسطورة الشعرية من نحو الف بيت جاءت في سبعة الواح نختصرها كما يلي : (( في الأصل لم يكن هناك سماء ولا أرض ، فقط ( كاوس ) محيط الماء والفوضى الأولية والعماء الكوني والركود والصمت والخواء ، وإلهين قديمين بِدائِيَين هما ( أبسو ) الإله الذَكَر للمياه العذبة ، و( تيامات ) الآلهة الأنثى ( التنين أو الهولة ) للمياه المالحة وحاملة لوح المصائر ، ونتيجة لتزاوج هذين الإلهين فقد وُلد أول زوجين من الآلهة ( لخمو ولخامو ) اللذان ولدا ( أنشار وكيشار ) ، وهذان أنجبا الإله ( آن ) أو ( أنو ) الذي أولد الإله ( أيا ) على صورته .
يقوم الإله ( أيا ) بالقضاء على جَده الإله ( أبسو ) لأن أبسو أراد تدمير نسل الآلِهة الشابة من أحفادهِ بسبب ضجيجهم الذي بدأ يُزعجه وزوجته تيامات ، ثم من نسل ( أيا ) يولد الإله العظيم ( مردوخ ) .
بعدها تقوم الإلهة ( تيامات ) بإحداث ثورة عنيفة ضد كل الآلهة إنتقاماً لزوجها ( أبسو ) ، ولإنها أساساً كان قد أغضبها وأقلق راحتها صخب تلك الآلهة الشابة من أحفادها ، لِذا قررت إفناءهم وإستئصال نسلهم ومن ثم التنعم بالراحة !، وتروح تُحضر لمعركة فاصلة كبرى وتقوم بولادة جيش ( 12 وحشاً ) من نوعية الآلِهة الفاتكة الكاسرة المخيفة !!، فيخاف الإله ( أيا ) وكذلك ( أنكي ) ويتراجعان ويرفضان خوض الصراع والحرب ضد ( تيامات ) !، وهنا يبرز دور الإله الشاب ( مردوخ ) الذي يتطوع للحرب بغية الحصول على السلطة العليا في مجمع الآلِهة .
يتسلح مردوخ بالقوس والسهام والمطرقة الإلهية والبرق والشبكة والطوفان والرياح الأربعة . يجري النزال الكوني الرهيب بين مردوخ وتيامات ، وبعد عدد من المناوشات المخيفة الخطيرة والكر والفر ينتصر مردوخ ، ويقوم بتشتيت وقتل جيش التنينة تيامات وسجن من تبقى منهم ، ثم يشق جسد تيامات نصفين "كما تُشق الصدفة" ليخلق نظاماً كونياً تكون السيادة فيهِ للذَكَر ، ويصنعُ السماء وقبتها المُرصعة بالنجوم من نصف جسد تيامات العلوي ، ومن النصف الآخر يصنع الأرض ، ثم يروح يُنظم عالم الآلهة والكون ، و يُتابع عمليات الخلق الأخرى . لكل ذلك يقوم مجمع الآلِهة بتتويجهِ سيداً على الآلِهة السماوية وعلى الأرض ، ويتنازل له خمسون إلهاً عن أسمائهم وصفاتهم وقدراتهم )).
ملاحظة : هناك ترجمتان لقصيدة الخلق البابلية ، واحدة - وهي الأقدم -للدكتور الراحل طه باقر ، والثانية لثنائي الأب البير أبونا والدكتور وليد الجادر .
فعاليات أيام عيد الأكيتو البابلي :
الأيام الأربعة الأولى كانت مُخصصة لطقوس الحزن وتطهير وتنظيف المعابد وهي طقوس في غاية الدقة والأهمية ، لأن المجتمع البابلي كان يعتقد ويؤمن أن إهمال الطهارة والنظافة أمرٌ بالغ الخطورة وقد يفسح المجال لدخول وتسرب الكثير من العفاريت الشريرة وتسلطها على البشر والكائنات الحية . وربما كانت فكرة بدائية أولية عن الجراثيم والفيروسات !!. قبل فجر اليوم الثاني يحضر الكاهن الأعلى ( شيشكالو ) إلى معبد الإله مردوخ ( الإيساكيلا - البيت الشامخ ) ، وبعد أن يغتسل بخزين ماء النهرين العظيمين دجلة والفرات يؤدي صلاته الخاصة أمام تمثال مردوخ ثم يسمح لبقية الكهنة بالدخول للقيام بواجباتهم الدينية المختلفة وتقديم الصلوات والإبتهالات للإله العظيم .
في اليوم الثالث يأتي الكثير من الحرفيين ( نجارين وحدادين وصباغين وصاغة ذهب وفضة ) لعمل تماثيل وعربات ورموز مختلفة لخدمة الإحتفالات كما نفعل اليوم بالضبط في التحضير لمهرجاناتنا وكرنفالاتنا الوطنية والدينية الشعبية .
في اليوم الرابع يُعلِن الكاهن الأكبر ( الشيشكالو ) بدء الإحتفالات الشعبية الكرنفالية الرسمية العامة ، ويقوم مع جوق الممثلين والممثلات ( موميلو وموميلتو ) بقراءة أحداث قصة الخلق وتفاصيلها المؤثرة . بعدها يتسلم الملك صولجانه من الكاهن الأكبر ، ويذهب إلى مدينة ( بورسيبا ) حيث يعيش الإله ( نابو ) إبن الإله مردوخ ، وهي على مبعدة ( 17 كلم ) من بابل ، حيث يقضي ليلة واحدة في ( أي زيدا ) وهو معبد الإله ( نابو ) ، وفي الصباح يطلب مساعدة الإله ( نابو ) في مهمة تحرير أبيهِ الإله ( مردوخ ) من أسرهِ وأغلالهِ في عالم الظلام الكوني ، ويدعوه للمجيء معه إلى بابل .
ملاحظة : الإله ( نابو أو نبو ) كان الإله القومي للكلدان ، ونسبة إليه وتيمناً بإسمه تسمى عدد من ملوكهم ، مثال : ( نبو نصر ) و ( نبو بلاصر ) و ( نبوخذ نصر ) .
في فجر اليوم الخامس المسمى بيوم ( التكفير ) ، ينهض رئيس الكهنة منذ الصباح الباكر ، ويتطهر بالماء المقدس لدجلة والفرات المحفوظ داخل المعبد، ثم يفتح أبواب المعبد لبقية الكهنة ليقوموا بتقديم وجبة الفطور لتمثالَي الإله مردوخ وزوجتهِ صربانيتوم . بعد تقديم الصلوات والقرابين يقوم الكهنة بحمل مشاعل ومحارق الطيب لتطييب وتطهير أجواء المعبد ، كذلك تجري طقوس تطهير المعبد بماء دجلة والفرات ، ثم تقرع الطبول وتتعالى أصوات الكهنة في دعاء جماعي مهيب ، وتوقد المجامر والمباخر وتُنار أرجاء المعبد ، ويقوم فريق خاص من الكهنة بمسح أبواب المعبد المقدس بزيت السدر ( النبق ) .
ثم يقومون بذبح شاة والطواف بها في أرجاء المعبد ، ثم مسح جدران المعبد المقدس بدمها ، وهو نوع من الإعتقاد يُسمى ( الإستبدال أو البديل "بوخو" ) ويعتبر من الفروض الأساسية للتعزيم ، ويُعَبِرُ عن عملية إنتقال الذنوب البشرية إلى جسد الشاة المذبوحة ، والتي سيتم فيما بعد رميها لماء النهر الجاري الذي سيجرفها ويجرف معها كل ذنوب السنة المنصرمة وما حملت من مساوئ وأوزار وخطايا وذنوب !. وعلى غرار ذلك فعل اليهود لاحقاً كإقتباس من بابل ، حيث كانوا يسوقون كبش فدائهم إلى الصحراء ويقومون بقذفهِ من مرتفع ما في عيد الكفارة ، وكما في عيد الأكيتو البابلي ، كان يستغرق عيد ( الفصح ) اليهودي أحد عشر يوماً أيضاً !. بعدها يصل الملك إلى بابل قادماً من مدينة بورسيبا وبصحبتهِ الإله ( نابو ) حيث سيتركه عند بوابة ( أُوراش ) في الجانب الجنوبي الشرقي ، ويتوجه لوحدهِ إلى بوابة معبد الإيساكيلا ، حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع كل شاراتهِ الملكية مؤقتاً ، وهي ( التاج والصولجان والحلقة والسيف ) .
داخل المعبد ينحني الملك بكل تواضع ورضِا لكبير الكهنة ( الشيشكالو ) الذي يصفعه بقوة على خدهِ ، ثم يسحبه بشدة من كلتا أذنيه ويُجبره على الركوع أرضاً أمام مذبح الإله مردوخ !، ويقوم الملك - روتين سنوي - بتقديم إعترافهِ أمام الإله مردوخ مؤكداً لهُ أنه حكم الدولة والشعب البابليين بكل محبة وصلاح وعدل ومساواة ، ولم يقم بأي عمل يضر بمصالح بابل أو يُغضبُ إلهها المحبوب مردوخ ، وإنه قام بصيانة ودعم أسوار بابل الشهيرة !. وهنا يهمس الكاهن للملك : لا تقلق .. سيستجيب الإله مردوخ لصلواتك ويُعلي ويُبارك سلطانك ويسحق كل أعدائك .
ثم يصفعهِ ثانية على خده بقوة أشد من المرة الأولى !، والتي من المفروض أن تُسبب إنهمار دموع الملك ، وهذا يعني رضى الإله . ثم يُعيد الكاهن الأكبر إلى الملك شاراتهِ الملكية بعد تطهيرها بالماء المقدس . كانت هذه الطقوس سنوية ثابتة ومهمة جداً ورمزاً لتواضع الملك وتذكيره بأنه من البشر الفانين وليس من معدن الآلِهة الخالدة ، كذلك تعني تجديد سلطة الملك الأرضي على مملكة بابل وتنزيههِ من كل خطيئة أو نقيصة قد تقف في طريقهِ كملك للحق والعدالة ! .
في المساء ، يُجلب إلى المعبد ثور أبيض يقوم الملك بذبحهِ بسكين التضحيات على مذبح المعبد ويرفعه كتقدمة للإله ، حيث كان تقديم التضحيات من أهم مظاهر العبادة في بابل .
اليوم السادس ، يوم الأمل والرجاء . حيث كانت تبدو طلائع مواكب المدن البابلية القادمة للمشاركة في الإحتفال ، يتقدمها موكب الإله ( نابو ) إبن مردوخ ، وعادةً كانت تفدُ بابل مواكب مدن يتراوح عددها بين 35 إلى 40 موكباً أهمها مدن أوروك ونيبور وأور وأريدو ، ولكل مدينة إلهها الخاص ، بعض المواكب كان يأتي عن طريق البر ، وبعضها عن طريق السفن في نهر الفرات .
كذلك يقوم الإله ( نابو ) بزيارة إله الحرب ( ننورتا ) في معبدهِ الخاص ، ويتفقان على خطة لقتال إلهين من آلهة الظلام في محاولة لتحرير والدهِ مردوخ ، ويقومان بتنفيذ الخطة فيما بعد بكل نجاح . وشيئاً فشيئاً يزداد هياج الشعب وغضبه وعنفوانَ مشاعره وقلقه وشغبه حين كانت تمر عربة الإله مردوخ بجيادها ولكن بلا سائق في شوارع المدينة التي تضج بالناس الذين سلبتهم قوى الشر والظلام معبودهم وإلههم مردوخ !. وكانت العربة الفارغة بلا سائق ترمز لفوضى الكون قبل أن يقوم مردوخ بتنظيمهِ .
في اليوم السابع يقوم الإله ( نابو ) إبن مردوخ بتقديم طقس معين يرمز إلى مشاركتهِ في تخليص مردوخ من أسر العالم الأسفل . ثم يقومون بتقديم تمثيلية - إفتراضية - تُصور موت الإله مردوخ وإنتقالهِ إلى السماء ، ويخرج الناس عن بكرة أبيهم باكين منتحبين ممزقين ملابسهم وباحثين في كل الطرقات عن إلههم مردوخ ، وتسود الفوضى وطابع المآساة بينهم !، كذلك يخرج مع الشعب الكاهن الأكبر متبوعاً بمئات الكهنة باحثين عن الإله مردوخ الذي خانه وجرحهُ الخائن ( بعل - حتيتي ) !.
يزداد صراخ وعويل النسوة وهنَّ يُشاهِدنَ كاهنات المعبد وجوقة الممثلين المقدسة ينضمون للمأتَم الشعبي الكبير في شوارع العاصمة بابل ، وتقوم النسوة بتمزيق ملابسهن وإلقاء التراب على رؤوسهن وتجريح وجوههن بأظافرهن وهن يحرضن الشعب على إيجاد الخائن ( بعل - حتيتي ) والفتك بهِ !!. وهذا يُذكِرنا بشخصية ( يهوذا الأسخريوطي ) الذي خان السيد المسيح ، كما تُذكِرنا هذه الجموع الباكية الحزينة بمراحل درب الصليب وكذلك بطقوس الحزن في عاشوراء بسبب مقتل الحسين الشهيد . أما الكهنة فيطوفون في شوارع المدينة صارخين : يجب العثور على الماء العجائبي المقدس ( حالزاكو ) الذي سيعيد الحياة لمردوخ !. وبعيداً عن تلك المشاهد ، تقوم مجموعة من الكهنة بتنظيف تمثال الإله مردوخ وبقية تماثيل الآلِهة وإلباسهم حلة جديدة تحضيراً ليوم الغد السعيد .. يوم قيامة الإله المعظم .
في اليوم الثامن ( يوم القيامة ) - ويُعتبر أهم أيام الأكيتو وأكثرها فرحاً - يسير موكب الكهنة وهم يحملون ( الماء العجائبي المقدس ) إلى باب قبر الإله مردوخ في معبد ( الأتيمننكي ) في برج بابل أو الزقورة ، ويَصِِلون إلى حيث تفترش الأرض الكاهنة الكبرى وهي تبكي وتنوح موت سيدها مردوخ ، وينطلق صوت الكاهن الأكبر : أخرج يا بعل ( يا سيد ) .. أن الملك بإنتظارك . وبعد أن يسقيهِ الكهنة الماء العجائبي المقدس تعود له الروح والحياة ، ويخرج تمثاله من القبر إلى حيث ينتظره الكهنة والآلِهة الأخرى الذين يقومون بإستقباله وتهنئتهِ بمناسبة قيامته المجيدة من بين الأموات ، ويأخذ مكانه في غرفة الأقدار ( دوكو ) وتتزاحم الآلِهة لتجديد ولائها لهُ ومنحهِ السلطة المطلقة وترديد أسماءهِ الخمسين ، وأثناء ذلك يقوم الملك تواضعاً بوظيفة رئيس الحجاب ، وكعادة مردوخ كل سنة يُملي شروطه على مجمع الآلِهة ، بينما جموع الشعب الصارخة خارج المبنى تُرعِد إحتفالاً بعيد قيامة مردوخ : ها قد قام مردوخ العظيم من بين الأموات !!!.
وتبدأ تماثيل الآلهة مع جموع الشعب مسيرتها في شوارع المدينة ، وتبلغ ذروة الإحتفال والصخب والبهجة قمتها حين يصل تمثال ( صاربنيتوم ) زوجة مردوخ وهي تتقدم موكبها العظيم حاملة بين ذراعيها تمثالاً لطفل صغير !، ومُحاطة بمجموعة من الكهنة والكاهنات المقدسات ، والكل يُنشد ويرقص ويشرب ، ومن الجهة المقابلة يتقدم موكب ( عشتار ) إلهة الحب والجنس والحرب والشبق والمعارك والبطولات ، واقفة على جسد أسد كبير وعلى رأسها تاج الذهب والجواهر ، وهي تتقلد سلاح القوس والكنانة والسهام .
في اليوم التاسع يقوم الملك بقيادة مركبة الإله مردوخ المصنوعة من الذهب ، تتبعها عربات بقية الإلِهة ، يخترقون شارع الموكب متجهين إلى نهر الفرات تصحبهم فرق المغنين والموسيقيين والراقصين وحاملي الأعلام ، وبعد التطواف على جانب النهر يسير بهم الموكب العظيم إلى الميناء النهري ليركب الجميع السفن البابلية المختلفة الأحجام والأنواع التي ستقلهم إلى بيت الإحتفالات أكيتو ، بينما يقوم الملك البابلي بدور الدليل لتمثال الإله مردوخ ، وبعد وصولهم وإستقرارهم في حدائق المعبد الواسعة ، يُعطي الملك أوامره لتبدأ الفرقة المقدسة بإنشاد التراتيل الطقسية التي تتكلم عن المعبودة الرائعة عشتار ، وعن أيا والد مردوخ وغيرهم من الآلهة الكبار ، ويكون مسك الختام بترتيلة أخيرة على شكل سؤال وجواب للآلهة الوافدة من مدنها ومعابدها البعيدة ، وسبب تركها لمعابدها وقدومها إلى بابل ؟ ، ويكون جواب الكل : لأننا نُريد أن نكون مع الإله مردوخ في عيده .
في اليوم العاشر ، كان الملك يُقدم يده للإله مردوخ راجياً منه النهوض معه ، وكانت هذه الشعيرة بالذات من الثوابت المهمة جداً في طقس عيد الأكيتو السنوي ، وهي تعبير ورمز لإقرار ومباركة الإله مردوخ لشرعية حكم الملك على بلاد بابل لسنة أخرى . ويتم تمثيل مقاطع حية من ملحمة الخليقة ، ثم تُقام إحتفالات وعروض مسرحية درامية شهيرة لبعض الأساطير التي كان يلعب الإله مردوخ الدور الرئيسي فيها . بعدها يذهب مردوخ - كعادته كل سنة - للإقتران بعروسه ( صربانيتوم ) ، إذ كان الجنس من ضمن الطقوس الضرورية الثابتة في ( الزواج المقدس ) المرتبط بعيد الأكيتو ، وكان ذلك يتم في مخدع مردوخ الخاص في الطابق الأعلى من الزقورة البابلية ، أما المضاجعة الفعلية فكان يقوم بها سنوياً الملك مع إحدى كاهنات المعبد لإتمام وضمان تلقيح وخصوبة الأرض والحياة للسنة الجديدة المباركة .
ملاحظة مهمة جداً : كان لأخذ الملك يد الإله مردوخ أهمية قصوى وخطيرة ، وضرورة مشدد عليها في بلاد بابل ، وأي ملك لا يقوم بأخذ يد الإله مردوخ لم يكن يُعترف بهِ ملكاً شرعياً على ( كل ) بلاد ما بين النهرين ، بل كان سيكون ملكاً محلياً فقط ، لأن بابل كانت تعتبر مصدر السلطة الشرعية في كل بلاد ما بين النهرين حتى أثناء سنوات التسلط العسكري عليها من قبل الآشوريين أو الفرس أو غيرهم . ولتوضيح هذه الملاحظة أكثر نعود لكتاب ( قوة آشور - ص 134 ) حيث يروي المؤلف هاري ساكز ما حصل بعد فترة إحتلال الجيش الآشوري لبلاد بابل في تلك الفترة : [ في عام ( 729 ق . م ) أخذ الملك الآشوري ( تجلا تبريزر الثالث ) يد الإله مردوخ البابلي ـ أي رافقهُ - في إحتفالات السنة الجديدة في بابل ، وبهذا مُنِحَ الملكية على بلاد بابل ، وهي وظيفة لم يحصل عليها أي ملك آشوري خلال أربعة قرون ] . أما الكاتب الكلداني الشماس كوركيس مردو ، فيقول في كتابه ( الكلدان والآشوريون عبر القرون ) ص 160 بتصرف : [ لم يكن أمام الآشوريين إلا الإعتراف بالثقافة البابلية ، والإقرار بأولوية كبير الآلِهة البابلية ( مردوخ ) ، وهذا ما فعله الملوك الآشوريين الذين بسطوا هيمنتهم في زمنٍ ما على بابل ، ومنهم سركون الثاني ومن قبله تغلث بيلاصر الثالث وشلمنصر الخامس ، حيث حملوا لقب الملوكية على بابل بعد إدائهِم الطقس المُتبَع ، وهو قيام الملك بقبضِ يَدَي بيل ( تمثال الإله البابلي مردوخ في معبده إيساكيلا ) ] .
في اليوم الحادي عشر تجتمع كل الآلهة في معبد الإيساكيلا لتقديم الولاء مرة أخرى لمردوخ بمناسبة إنتصارهِ وقيامهِ بتنظيم الكون ، ولتثبيت الوعد الذي قطعوه له في اليوم الثامن . كذلك كان يتم في هذا الإجتماع تقرير مصائر البشر ومدينة بابل !. وكان هذا التجمع شبيهاً بما يسمى اليوم بالبرلمان .
في اليوم الثاني عشر تُبذَلُ المآدب العامة الباذخة لكل من في المدينة من بشر ، وتُقام الإحتفالات الصاخبة المُعربدة على أصوات الموسيقى والغناء والرقص وتقديم الخمور البابلية الشهيرة . وإلى عام جديد وعيد أكيتو سعيد في السنة القادمة .
أسباب عيد الأكيتو :
- الترحيب والإحتفال بالطبيعة والإبتهاج بقدومها وبخيراتها الموسمية ، ويتلخص ذلك في رموز أسر الإله تموز الذي يتم الإستعاضة عنه بالإله مردوخ في أيام الأكيتو ، وغيابه لنصف سنة في عالم الأموات الأسفل ، ومن ثم بعثه وقيامته ، وهذا يحدث كل سنة ويرمز للطبيعة وحلول الشتاء وموت الزرع والخضرة ومن ثم عودتهما في فصل الربيع والصيف .
- إحتفالاً بإنتصار الإله مردوخ على الإلهة التنينية تيامات ، وقيامه بخلق وتنظيم الكون . وهو رمز رائع لمقاومة أزلية القوى العدمية المتصدية لحركة الكون بُغية إعادتهِ إلى حالته السكونية الأولى .
- إعادة تتويج الملك الأرضي ، وتجديد صلاحيته وسلطته ، حيث كان ملوك وحكام بلاد ما بين النهرين يعتبرون أنفسهم وكلاء أو مستأجري أرض الإله ، ويتعين عليهم تجديد عقد الإيجار من الإله كل عام وتحديداً في عيد الأكيتو ( رأس السنة ) . وحتماً لن ننسى السبب الإقتصادي ، حيث كانت مدينة بابل تزدحم بالزوار من كل المدن الأخرى كما هي الحال اليوم في شهور الحج للمدن الدينية المقدسة لكل الأديان ، وما يصرفه الزوار من مبالغ طائلة كل عام.