عفيفة اسكندر
هذه الفنانة العراقية المثقفة القديرة التي طارت شهرتها في عراق القرن العشرين ، وهي اديبة من اللواتي اشتهرن بحفظ مئات الابيات الشعرية .. وعفيفة ولدت في الموصل وكانت أبنة للفنانة الموصلية الشهيرة ماريكة التي كانت تمتاز بصوتها الصدّاح واغنياتها ورقصاتها التي تؤديها في حفلات خاصة ، وأبوها اسكندر سمعت منذ زمن بعيد انه ارمني وترّبت عفيفة في طفولتها وبواكير شبابها في مدينة الموصل ، ثم انتقلت الى بغداد لتقطن فيها عندما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها .. وبدأت تغني في النوادي والمسارح والكارباريهات وازدادت ثقافتها مع مضي الزمن خصوصا وقد كان لها مجلس يؤّمه العديد من الادباء والشعراء والفنانين والمثقفين العراقيين .. واصبح لها شأن في المجتمع البغدادي اذ توثّقت علاقتها بالعديد من العائلات البغدادية والاسر العليا في المجتمع وخصوصا ابان العهد الملكي وحتى العام 1968 ، اذ انها اعتزلت عن الفن اعتزالا تاما ، واحتجبت معتكفة في بيتها بعد وصول البعثيين الى السلطة ، فهي وان لم تكن الوحيدة التي لم تمدح البعث والبكر وصدام كما فعل الاخرون ، ولكنها استطاعت ان تخفي معارضتها السياسية من خلال صمتها الطويل على مدى اكثر من 35 سنة .
لقد بقيت تعيش لوحدها مع كلبها الوفي في بيتها الجميل ببغداد مع ابقائها علاقتها القديمة باصدقائها وصديقاتها القدامى ، وكانت تذهب صباحا لتشتري حوائجها ثم تقفل راجعة الى بيتها .. وقد سمعت ان بصرها قد قل في السنوات الاخيرة . ولعل أقوى صدمة نالتها عفيفة كانت في فجر 14 تموز/ يوليو 1958 عندما سقط النظام الملكي في العراق ، فاعتبرت ذلك اليوم اسودا في تاريخ العراق وبكت على اولئك الرجال الذين فارقوا الحياة اذ غنّت اغنيتها الشهيرة : " حرقت الروح لمن فارقتهم .. بكيت ومن دموعي غرقّتهم " ! لقد بقيت عفيفة ملتصقة بتراب العراق ولم تغادره وبقيت صامتة ولم تظهر للعلن الا مؤخرا عند تكريم الرواد لمناسبة مرور 68 سنة على تأسيس الاذاعة العراقية ، فعرف الناس انها لم تزل على قيد الحياة ، ولم تزل مغروسة في بغداد . ظهرت لتقول : ها انا ذا اعلن عن وجودي بعد صمت قاس تحّول خلاله فن الغناء العراقي الى سيرك فيه كل الالوان المبهرجة والبلادة والمجانية والسماجة وخليط من البلايا المضحكة !
اغاني عفيفة اسكندر
تميزت اغنياتها بنكهة رائعة وكانت تصدر من واقع بيئة بغداد الحضرية ، وهي تمتاز بروحها العراقية وفنتازيتها الراقصة المستمدة من طفولتها الموصلية .. كانت تراعي في اختياراتها من الكلمات والقصائد والموشّحات التي كانت تعشقها عشقا خاصا . رأيتها مرة في طفولتي ببغداد في احدى بيوتات قريباتي وهي تقرأ شعرا في حفل خاص بحديقة غنّاء وكانت رائعة الاداء وتدرك معنى مخارج الحروف .. وهي تدرك عناصر الجذب من قبل القنان للاخرين وكيف ترسم الابتسامة على الوجه وكيف تحّرك ملامحها من اتجاه لآخر . ولقد تعاملت مع ملحنين عراقيين كانوا يحترمونها ويأخذون برأيها وكانت تحرتم عملها وتحب جمهورها وتنعش حفلاتها .. ولعل اهم ما كانت تعتز به صديقاتها القديمات من سيدات مجتمع بغداد . ولم نعرف لعفيفة اسكندر غناء لعهد أو ذماً لآخر، سوى للوعة التي تتركها ازمان وراء ازمان ، ولم نسمع الوطن إلا في بحر المحبة الفائض الذي يتدفق من كلمات أغنياتها.
لقد واصلت عفيفة حضورها متعدد المستويات في الأغنية العراقية، اذ كانت لها "كاريزما" من نوع خاص، وكانت قد ارتبطت بالنخبة المثقفة والسياسية على الأغلب، قبل أن تغيب، معلنة اعتزالاً غنائياً معروف الأسباب، وهي ترى تحول جميع المطربات والمطربين العراقيين الذين أتوا من بعدها إلى كورس موحد، يلهج بصفات الدكتاتور. قبل أن تغيب غيبتها تلك كانت عفيفة قد تركت عهداً من الشجن الآخر الذي لم يعد متاحاً منذ غيابها.
ولعلّها الوحيدة من بين جميع المطربين العراقيين على الإطلاق، ممن بقوا داخل العراق، التي لم تظهر لا في غناء فردي ولا في كورس جماعي كي تمجد الحروب، على إيقاع مقتل العراقيين الذين لم يؤبنهم أحد، كأنها كانت عفيفة الصوت، ووفية لمن أحبّها ممن ذهبوا ومن تبقوا على ارض الرافدين .
مصادر العطاء
غنت عفيفة اسكندر اللون البغدادي، الذي يبدو غائباً تماما اليوم ، عن مجمل الغناء العراقي، وقد احترمت نفسها مبتعدة عن تأدية ألوان المقام العراقي، ولم تعرف أطوار الغناء الجنوبي، وكثير من المختصين لا يعرفون سر ذلك الوضوح في أغانيها ذات اللحن السريع الذي ينظر إليه راهناً بمثابة نقلة نوعية في طبيعة الأغنية العراقية التي كانت سائدة آنذاك، فأقول انها قد نقلت اللون الغنائي السائد في الموصل ومناطق الشمال الى بغداد .. وعليه ، فهي ليست تأثيرات الأدوار المصرية، بل تلك المواويل التي تنحدر أطوارها من جغرافية الموصل الشمالية . لقد تضمنت أغانيها الأولى نكهة الشارع البغدادي، بعباراته الشائعة وبلاغته الخاصة وبنحته للجملة من لهجة موصلية صعبة باحالاتها وامالاتها لا يمكن أن تتداخل معها ابدا لهجات المناطق الأخرى؛ بيد أن أجواء بغداد المخملية في عقدي الأربعينات والخمسينات قد استوعبتها وحملت مزاجا متمدنا لا يكاد يفصل بين ما تفرزه الحياة، وما يستعيره الفن من تلك الإفرازات، فيتدثر بإيحاءاتها الثرية، ما أمكن له أن يتدثر دون أن يفقد تلك الصلة.
لقد شكّلت عفيفة ريادة من نوع ما في الاغنية العراقية المتمدنة التي تخلو من لواعج الجنوب او نواح الريف او بكائيات المقام .. وكأنها تمّثل رمز زمن ذهبي بكل خصبه الابداعي العراقي في الشعر والقصة والفنون التشكيلية ونجوم المسرح والغناء، فالمجتمع المدني العراقي بدأت ملامحه تتشكل للتو، وجاء ظهور التجمعات الثقافية: جماعة بغداد للفن التشكيلي، والفرق المسرحية الأهلية كفرقة الزبانية، مترافقاً مع ثورة الشعر الحديث، وحركة الرواد، ومع التجديد في القصة .. وعصرنة الحياة التي يبدو من الصعب تكرارها ثانية في نسيج شرائح المجتمع العراقي ونخبه، حيث لم تكن المسافة واضحة بين الملهى والمقهى، والصالة والصالون، فكلها كانت منتدى للحوار والحياة معاً.
عفيفة وغناء الشعر
ان علاقتها المتميزة مع أهل الأدب ليست سوى انعكاس طبيعي لعلاقتها بالأدب نفسه، فهي مغنية تكاد تنتمي لمغنيات العصر العباسي، في ما يتعلق بالثقافة الأدبية، رغم السمة العصرية التي طبعت تجربتها وسلوكها بطابع خاص، والبيئة التي حققت صلة نموذجية معها؛ فغنت قصائد رقيقة بدت متناسبة مع تجربتها ودللت على عمق اختياراتها من حيث اهتمامها بالجملة والمفردة، فغنت لظرفاء بغداد كالعباس بن الأحنف في "أيا من وجهه قمر" وللعشاق الأندلسيين، كالخطيب الأندلسي الأعمى في "قيل لي قد تبدلا". لربما لم يسمع كثير من العراقيين قصيدة "يا عاقد الحاجبين" لبشارة الخوري، من فيروز كما سمعوها من عفيفة اسكندر، وربما بعدها، الأولية هنا غير ذات أهمية، صحيح أن تلك القصيدة لدى المغنية البغدادية تحولت إلى ما يشبه الطقطوقة، لكن الصحيح أيضاً أن البغاددة عندما يسمعون جملة "قتلتني مرتين" في الأغنية بلحن مختلف عن لحن الرحابنة الذائع عربياً، فهم يسمعونها بصرخة وانتفاضة من "عفاوي" لا بهمس ونبرة انسيابية وشفيفة في صوت السيدة فيروز اللبنانية الشهيرة .
السينما
لقد اشتركت الفنانة عفيفة اسكندر في فيلمين سينمائيين في نهاية الأربعينات، كان الأول " ليلى في العراق " صناعة مشتركة بإخراج مصري، ومشاركة في البطولة للفنان اللبناني محمد سلمان الذي نجح في تجربة سابقة في فيلم مماثل مع المطربة صباح ، وقد عزز مسيرة السينما في العراق بتجربة في زمن يحتاجها. أما فيلمها الثاني "القاهرة بغداد"، الذي أخرجه المصري أحمد بدرخان، فهو آخر عهد لها مع السينما.
وأخيرا
منذ احتجابها انحسرت الاصوات النسوية العراقية عن الغناء ، وبقيت أصداء الأجيال القديمة من المغنيات هي المتداولة حتى يومنا هذا . ان عفيفة في الواقع هي الجسر الموصّل بين أهم جيلين من مغنيات بغداد في القرن العشرين : جيل مثّله سليمة مراد ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وصديقة الملاية ، وجيل مثّله مائدة نزهت وزهور حسين ووحيدة خليل ولميعة توفيق ، انتهى الجيل الأول بالرحيل، بينما غيب الموت والصمت الجيل التالي، لكنها ظهور سيبدو ممزوجاً بالرعب مما يحدث على الأغلب. إنها صورة العراق الغائبة والمطمورة تحت ركام القمع والحصار والحروب، تنهض اليوم مجدداً لكنها لا تكاد تصدق، إنه العراق مرة أخرى! لكن أجمل ما في هذا الظهور إن عفيفة اسكندر عادت بعد ربع قرن من الاحتجاب وهي تحمل معنى أن ينطبق الاسم على المسمّى.
انتهت أسطورة عفيفة إسكندر... لفظت أنفاسها الأخيرة على سرير في مستشفى مدينة الطب في بغداد، فرحلت الروح الى بارئها بعدما صمدت لسنوات وهي تدافع بكل جمالها وحلاوتها عن جسدها الذي ما عاد يمتلك قدرة الوقوف ازاء التداعيات الصحية الخطيرة التي نالت منها ما بين هبوط في الدورة الدموية ونزيف في المعدة أو غيبوبة طويلة، بعد أن نالت منها الشيخوخة فلم يعد لها أي نشاط حركي خلال أشهر السنة الأخيرة على الاقل من حياتها، وليس لها إلا أن تتمدَّد على السرير تخلد إلى النوم لساعات. ولا يفيقها سوى كوب عصير يرطب الجفاف ويحيي بعض الخلايا الذاهبة الى الفناء.
ماتت عفيفة إسكندر عن عمر يناهز ٨٥ عامًا (١٩٢٧-٢٠١٢) في الساعة الثانية عشرة والنصف من صباح يوم المصادف 22/10/2012، وعلمنا من أم عيسى المهتمة والقائمة على رعايتها، أنها ستقوم بدفن عفيفة اسكندر في المدافن الخاصة بعائلتها في مدينة بعقوبة في محافظة ديالي، لعدم وجود أهل لها في بغداد ولا مقابر معروفة، وكانت تسكن في شقة مؤجرة في منطقة الكرادة الشرقية، وبهذا رحلت عفيفة من الدنيا وهي لا تملك شيئًا بعدما فقدت كل شيء في شيخوختها.
المصدر