ما بعد كورونا
عدنان الجنابي / حزيران 2020
"يا مدينة أور أقفلي الأبواب عند سماعك صرختي أقفلي أبوابك أقفلي معابدك عودة الآلهة ديموزي من عالم الأموات"
المشهد الأول:
زمن الصين
هناك في التاريخ هزات تغير مسار البشرية، بحيث يكون ما بعدها يختلف عما قبلها. فالحرب العالمية الأولى وما تبعها من الأنفلونزا الإسبانية غيّرت أنظمة وشعوب أدّت إلى الأزمة الإقتصادية الكبرى عام 1929- 1930، وما رافقها وتبعها من الثورة البلشفية وظهور الإتحاد السوفييتي من جهة، وظهور النازية والفاشية من جهة أخرى.
الحرب العالمية الثانية وضعت المقومات لظهور الدولة الراعية في الغرب، وحركات التحرر والاستقلال وقيام الأمم المتحدة لتضم قرابة المائتي دولة معظمها لم يكن لها وجود قبل الحرب العالمية الثانية.
التغيرات الكبرى في مسيرة البشرية لا تخلق من فضاء، بل الهزات الكونية الكبرى تسرع في اندثار أنماط من العيش، وتفتح الأبواب لأنماط جنينية بديلة.
كان القرن التاسع عشر يسمى بقرن الأمبراطورية البريطانية، والقرن العشرين إنتقل من إزدواجية أمريكا والإتحاد السوفياتي إلى أحادية القطب الأمريكي، ومقولة فوكوياما: "نهاية التاريخ".
ما بعد كورونا لن يشبه ما قبلها. لا نعرف بعد كيف ومتى تتخلص البشرية من جائحة كوفيد 19، أو التعايش مع هذا الفيروس المستجد. ولكن شمول البشرية كلها بعاصفة أجبرت الجميع على إتباع أنماط من العيش سيكون لها تأثير غير قليل على الشعوب والحكومات والتقنيات التي غيّرت وستغير الكثير.
عصر ما قبل كورونا كان عصر أمريكا الّتي لا يزال إقتصادها ببعض المقاييس يشكل ربع أو خمس الإقتصاد العالمي. أمريكا قائدة العالم بالإبتكار والتكنولوجيا، بالإضافة إلى إمتلاكها لجيوش تفوق ميزانيتها دول كبرى. أمريكا دخلت عالم كورونا منقسمة ومرتبكة. وستخرج من كورونا أكثر إنقساماً وإرتباكاً، وستخرج بإقتصاد منكمش وبطالة غير مسبوقة.
سادت أمريكا وتربعت على القرن العشرين بعد فشل الأمبراطوريات القديمة من العثمانية إلى الأمبراطوريات الأوروبية، وآخرها الأمبراطورية البريطانية الّتي لفظت آخر أنفاسها في حرب السويس. سادت أمريكا بإقتصادها الحيوي وشعبها الفتي المبدع وصناعاتها العملاقة مثل جنرال موتورز وأكسون موبل وولمارت.
أنهت أمريكا القرن العشرين بالإنتقال من شركات المواد (Hardware) إلى الشركات الرقمية (Software) مثل مايكروسوفت وآبل وأمازون وفيسبوك وكوكل. شركات المواد محلية ومدخلاتها ومخرجاتها يغلب عليها الطابع المحلي. أما الشركات الرقمية، فهي تعيش في الفضاء السايبراني العابر للحدود الأرضية. وهذا الإقتصاد بالذات هو الّذي سيسمح للسيادة الأمريكية بأن يتم إختراقها من الداخل ومن ثم من الخارج. وعظمة الجيوش الأمريكية ستكون عبئاً على أمريكا في زمن اللاعبين الغير نظاميين. عام 2006 في العراق دارت معركة طاحنة بين الجيش الأمريكي ومجموعة من المقاومة في منطقة اللطيفية. كانت الحصيلة خسارة الجيش الأمريكي (12) مدرعة وعجلة وعدد من الجنود، ودامت المعركة حوالي الساعتين، ودخلت المعركة إمدادات مهمة من الوحدات الأمريكية القريبة. عرفت من مصادر أثق بها في المنطقة أن الطرف الثاني كان يتكون من ثمانية أشخاص برشاشات كلاشنكوف، واحد (آر بي جي) ورمانات، وانسحب الثمانية بسلام إلى منطقة كراغول، وعبروا الفرات إلى جرف الصخر.
هذه الجيوش الأمريكية العملاقة غير صالحة لأنواع القتال في الألفية الثالثة، وستكون عبء على أمريكا لا عوناً لها.
الصناعات الأمريكية (المادية) الّتي أراد ترامب إعادتها لتجعل أمريكا (عظيمة مجدداً) هي صناعات القرن الماضي. والصناعات الرقمية الّتي ولدت من إبداع الشباب في أمريكا ستنتقل في الفضاء الرقمي حيث يولد العالم الجديد بعد زمن الكورونا.
كانت الصين في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر أكبر إقتصاد في العالم. الصين لم تولد في زمن ما بعد ماوتسي تونغ. حجم الإقتصاد الصيني بمعيار القدرة الشرائية (PPP) تجاوز الإقتصاد الأمريكي عام 2013. حجم اٌلإقتصاد الصيني اليوم يبلغ (27.8) تريليون دولار، أي ما يعادل (20%) من الإقتصاد العالمي، والإقتصاد الأمريكي بنفس المعيار يبلغ (20.3) تريليون دولار، أي ما يعادل (14%) من الإقتصاد العالمي.
ما بعد كورونا سيتراجع الإقتصاد الأمريكي بدرجات تتاثر فيها التقديرات بمجاهيل عديدة، وبنسب تتراوح بين 7% و10%. وهذا ليس هو المهم، بل أن عزلة أمريكا وإنقسامها وإصرار قادتها على الرجوع إلى الوراء – إلى الإقتصاد المادي، سيفتح المجال إلى الصين وغيرها، وبالإعتماد على الإقتصاد الرقمي للإنتقال من الزمان إلى المكان فيما بعد كورونا.
التقيت قبل عام بأحد مستشاري البيت الأبيض في التقانات الرقمية والذكاء الإصطناعي في دبي، وكان عائداً من الصين في مهمة خاصة لتقييم تطور الصين في هذه المجالات. أخبرني أن ما نعرفه عن الصين مثل جبل الثلج، عشرة ضاهر وتسعة أعشاره غاطسة.. وإن ما ننجح في إنجازه بعشرة سنوات تنجزه الصين بسنة واحدة، بسبب مركزية القرار وسرعة إتخاذه. فعلى سبيل المثال في مجال التعرف على الوجوه (Face Recognition) توصلت الصين إلى دقة تتجاوز 98%، لأن الحواسيب هناك تم تدريبها على مليار وثلث من قاعدة معلومات وطنية وملايين أخرى من خارج الصين. عندنا الحواسيب دربت على بضعة ملايين أغلبها من البيض، والحصيلة أن الحواسيب لا تزال تخطئ بنسب عالية من التعرف على وجوه السود. شركة هواوي تتقدم بسنوات على شركاتنا في تقانات الجيل الخامس من الإتصالات، وإذا لم نتعاون معها سنتأخر سنوات. نعلم الآن أن ترامب قاطع هواوي، مما يدفع هواوي والصين للإستغناء عن المعدات الأمريكية، وستكبر الفجوة في مجال الإتصالات وتداول المعلومات كما في الذكاء الإصطناعي وغير ذلك من مكونات الثورة الصناعية الرابعة.
الصين تتحرك من الآن نحو الخروج من الأزمة الإقتصادية بأقل الخسائر. هذا ليس هو المهم، بل المهم أن الصين، وشرق آسيا عموماً، فيها أنظمة وثقافات إجتماعية قادرة على ركوب الإقتصاد الرقمي وتأسيس زمن جديد ما بعد كورونا. اليابان تراوح مكانها مثل أمريكا، وعبء التراجع الديمغرافي، لن يسمح لها باللحاق بالركب الآسيوي. ولكن الهند وأندونيسيا وفييتنام وماليزيا وكوريا وغيرها، شعوب ستركب بعد كورونا الزمن الرقمي وتنتقل بالحضارة البشرية إلى آفاق لا تستطيع أمريكا ولا حتى أوروبا اللحاق بها.
الفضاء (الإقتصاد) الرقمي الجديد سيتكون من الثورة "الصناعية" الرابعة بدون صناعات "مادية"، بل بالذكاء الإصطناعي (A.I.) والعمل دون مكاتب والمصانع الذكية والتجارة الإلكترونية والتنقل الذكي الذاتي القيادة، وأخيراً وليس آخراً الطاقة المتجددة الرخيصة. لا تأتي التغيرات التاريخية بين يوم وليلة، ولكن الهزات والأحداث الكبرى تعجل بما هو في طور التكوين، فتعجل فيها وتدفعها إلى الصيرورة بتسارع لم يكن في الحسبان.
نفوذ وتأثير الدول (ومجاميع الدول) في الأمد المتوسط والطويل يحدده الإقتصاد. ولكن مع الإقتصاد تتفاعل عوامل الديمغرافيا والنظام الإجتماعي/ السياسي. اليابان رغم حجمها الإقتصادي، إلا أن العامل الديمغرافي (تناقض السكان وإرتفاع معدل أعمارهم) يحدّ من تأثيرها المستقبلي، كما أن نظامها الإجتماعي يحد من تأثيرها في العالم الخارجي. كما أن روسيا، رغم إندفاعها بقيادة بوتين، فإن تأثيرها سيتناقص بسبب حجم إقتصادها وتناقص سكانها.
الصين والهند ومحيطهما الآسيوي، ستكون الأكثر تأثيراً إلى حين يلحق بهم العامل الديمغرافي في نهاية القرن. ولا نستطيع التنبؤ بمدى أثر التكنولوجيا والعالم الرقمي الجديد في إطالة عمر الزمن الصيني/ الآسيوي القادم.
المشهد الثاني:
أفول زمن النفط
منذ عقدين من الزمن وخبراء النفط والطاقة غيروا إهتمامهم من القلق على نضوب النفط (end of oil) إلى القلق من أفول الطلب (end of demand). فقد تم إكتشاف إحتياطات نفطية تقليدية جديدة في كل مكان، من أنكولا إلى البرازيل، وتم إدخال إحتياطيات غير تقليدية مثل الرمال القيرية في كندا (167 مليار برميل) ونفط ثقيل في فنزويلا (300 مليار برميل) وإحتياطيات النفط الصخري في مختلف أنحاء العالم. ففي الولايات المتحدة زاد إنتاج النفط من حوالي (7) مليون برميل يومياً إلى (15) مليون برميل يومياً معظمها من النفط الصخري.
في الوقت الّذي تتزايد مصادر إنتاج النفط، هناك مؤشرات متزايدة على ضعف الطلب العالمي على النفط بعدما قاربت السوق الصينية من الإشباع. يتراجع استهلاك النفط في أوروبا والولايات المتحدة واليابان.
تزايدت في الألفية الثالثة الضغوط للحد من إنبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون من الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز). ويتسارع استعمال مصادر الطاقة المتجددة والمستدامة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والوقود العضوي والدعوة للعودة إلى الطاقة النووية. كما يتسارع التقدم التكنولوجي في كفائة استعمال المنتجات النفطية في النقل البري والجوي والبحري، علماً أن النقل يشكل أكثر من (60%) من الطلب على النفط الخام.
تتسابق الدول المتقدمة إقتصادياً في البدء بتنفيذ سياسات تنهي استعمال وسائط النقل البري الّتي تسير بالإحتراق الداخلي (البنزين وزيت الديزل) والإنتقال إلى السيارات الكهربائية إبتداءً من عام 2035. وهناك تقنيات تحت التطوير لتقليل الإعتماد على المنتجات النفطية في النقل البحري والنقل الجوي.
من ناحية أخرى تتزايد الدعوة للحد من استعمال المنتجات البلاستيكية الملوثة للبيئة، وهي تشكل الإستعمال الثاني للمنتجات النفطية بنسبة (20%) من الطلب على النفط الخام.
عندما ضرب كورونا العالم كانت الصدمة على الطلب العالمي على النفط الخام من أشد الصدمات. تعطل الطيران بشكل شبه كامل. تقلصت حركة النقل البري، وخاصة السيارات، إلى أقصى الدرجات في جميع الدول الّتي تبنت الحجر كأسلوب لإيقاف إنتشار جائحة كورونا. كانت الصدمة من الشدة بحيث أدت لأول مرة في تاريخ البشرية أن بيعت بضاعة بسعر سالب حين هبط سعر نفط غرب تكساس إلى مبلغ (37.63) دولار تحت الصفر. آي أن البائع دفع إلى المشتري قرابة الأربعين دولار للتخلص من عقود النفط الّتي استحق سدادها في نهاية شهر آيار. كما هبط سعر نفط برنت القياس إلى ما دون العشرين دولار للبرميل. حدث كل هذا بالرغم من قيام المنتجين بتخفيض إنتاجهم بقرابة العشرة ملايين برميل يومياً. كانت خزانات المصافي ممتلئة سواء بالنفط الخام أو المنتجات النفطية الّتي لا تجد لها مشترين.
الصدمة الأولى لكورونا كانت تدمير (30%) من الطلب العالمي على النفط الخام. وبعد تخفيض الإنتاج بنسبة (10%) لا تزال جميع منشآت تخزين النفط والمنتجات بأعلى مستوياتها، علماً أن الطلب على المنتجات النفطية آخذ بالتحسن التدريجي. لا يتوقع أحد من المتعاملين بالنفط من منتجين وشركات وناقلين ومصافي ومستهلكين، من يعتقد بصورة جدية أن الطلب على النفط الخام سيعود إلى ما كان عليه عام 2019 حين بلغ الطلب العالمي على النفط الخام حوالي (100) مليون برميل يومياً.
أكثر المتفائلين يتوقع أن ينخفض الطلب على النفط الخام في نهاية العام الحالي والعام القادم من ما كان عليه عام 2019. أكثر التوقعات تقدر خسارة (10) ملايين برميل يومياً لمدة عامين على الأقل. بدأت شركات النفط العالمية تخفض من استثماراتها ومن توقعاتها. تستعد بعض الشركات العاملة في مجال النفط الصخري في أمريكا بغلق بعض الآبار، ويتوقع الخبراء أن تتم تصفية عدد من الشركات ذات الكلفة العالية والأوضاع المالية الحرجة.
دخول كورونا ليس مثل خروجها... في فترة الحجر الكامل ومن ثم التباعد الإجتماعي ظهرت أنماط من السلوكيات تعتمد على الحياة الرقمية، بمعنى أن العمل عن بعد أخذ يحل محل التنقل بين البيت ومكان العمل. أنماط التسوق توسعت بشكل إنفجاري على التجارة الإلكترونية أو التسوق الإلكتروني. التعليم بكل مراحله، وفي جميع الدول، يتحول من المدرسة والجامعة إلى الحاسوب. المعامل وأماكن العمل المختلفة تتسارع في تطوير الذكاء الإصطناعي والتعجيل بعناصر الثورة الصناعية الرابعة.
عندما يرحل كورونا سنجد أن العالم تغير ويتغير بسرعة هائلة إلى أنماط من الحياة لا تشبه ما قبلها. الشركات الرقمية تزدهر، والشركات المادية تنهار الواحدة تلو الأخرى. لن يتفاجأ أحد إذا وجدنا بعد سنة أو سنتين أن السيارات الكهربائية والنقل الذكي (بدون سائق) يكتسح الشارع. ويجب أن لا نتفاجأ إذا وجدنا أن شبكات التكامل الصناعي تتحول من سلاسل التجميع ذات الإنتشار العالمي، إلى التكامل المتقارب جغرافياً بتكامل أفقي وعمودي بفضل التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي والثورة الصناعية الرابعة وأنترنت الأشياء. تسعى شركة تسلى (Tesla) إلى بناء مجمعات تصنيع البطاريات بقرب معامل تصنيع السيارات الكهربائية بتكامل عامودي فاجأ العالم، وسيفاجئ صناعة السيارات التقليدية بثورة ستدفع جميع صانعي السيارات إلى اللحاق بها، كما دفع هنري فورد صناعة السيارات قبل أكثر من مئة عام إلى نمط خط الإنتاج على الحزام الناقل بدل التجميع اليدوي بالقطعة.
ماذا تعني هذه الثورة بالنسبة إلى النفط؟
إنها بكل تأكيد ستقلل من استهلاك النفط في وسائط النقل بكل أشكالها. وأول الخاسرين ستكون صناعة النقل الجوي، تتبعها السيارات الكهربائية ذكية الحركة، ولربما تغيرت إتجاهات ونوعية النقل البحري.
يتوقع العديد أن يكون عام 2019 هو أعلى نقطة في الطلب على النفط الخام، وأن العالم لن يحتاج بعد اليوم إلى (100) مليون برميل يومياً. وعند إنكماش الطلب، ستكون المنافسة على الأسعار بين المنتجين للبقاء في السوق هي المحرك الأهم في أسواق النفط. ستكون أسعار النفط في هذه الحالة متهاودة، وسيؤدي ذلك إلى خروج ذوي الكلف العالية من الإنتاج. منذ الآن أخذت بعض شركات إنتاج الرمل القيري، في البرتا، بكندا، بتصفية بعض استثماراتها. وكذلك ستتم تصفية العديد من حقول النفط الصخري في أمريكا. ستتوقف الإستكشافات في المناطق النائية في المياه العميقة، وستتراجع بعض الإستثمارات في روسيا والبرازيل لأسباب إقتصادية ومالية.
ما بعد كورونا ستتسارع عوامل إنكماش الطلب العالمي على النفط. أوروبا وأمريكا واليابان تشهد إنكماش للطلب على المنتجات النفطية منذ سنين. أسعار النفط قد تبقى دون الخمسين دولار للبرميل لعقود، وحتى عام 2050 كما تتوقع شركة برتش بتروليم (B.p.). أسواق النفط التي يتنافس عليها المنتجين هي في شرق آسيا والهند، وليس في أمريكا وأوروبا.
إستعمال النفط في إنتاج الطاقة الكهربائية لا يتجاوز (3%)، ولكن إنتقال النقل إلى الكهرباء سيزحف على الطلب على النفط في أهم أسواقه. وسيتزايد الضغط على إيجاد بدائل مستدامة للصناعات البلاستيكية لأسباب حماية البيئة من التلوث البلاستيكي، كل هذا مع الإنتقال من الإقتصاد المادي (Hardware) إلى الإقتصاد الرقمي (Software) سيجعل عالم الغد لا يشبه عالم اليوم، وسيكون النفط من الخاسرين.
المشهد الثالث:
العراق... إلى أين؟
أهم المعطيات التي يمكن أن يتكون منها طريق العراق إلى المستقبل، ويستنير بها صانعوا القرار في العقدين القادمين، كي لا يضيع جيل آخر في متاهات الفشل الّذي اقترفه قادة العراق في العقدين الماضيين.
أولاً: بعد كورونا ومن دونها سيكون سكان العراق عام 2040 حوالي خمسين مليون نسمة، وستبقى تركيبتهم الديمغرافية من الشباب بأكثرية دون 35 سنة من العمر.
ثانياً: عالم ما بعد كورونا تسوده أنماط العمل والإنتاج بتقنيات رقمية (سايبرية) على العراق أن يتعايش معها وبها.
ثالثاً: عالم ما بعد كورونا هو زمن الصين وشرق آسيا، وتكون الصين فيه الأعظم إقتصادياً والأكثر تأثيراً في عالم الغد.
رابعاً: سينكمش تأثير أمريكا وأوروبا إقتصادياً وسياسياً، وسيستمر إنكماش الطلب على النفط فيها.
خامساً: سيتراجع الطلب على النفط الخام والمنتجات النفطية في مجالات النقل وسيتزايد الضغط على إيجاد بدائل للمنتجات البلاستيكية.
هذا المشهد الّذي تحكمه المعطيات أعلاه، سيتحدد فيه الفرق بين النجاح والفشل. من يتماشى مع هذه المعطيات ويتكيف بموجبها يضمن النجاح، ومن يتجاهلها يتمرغ بالفشل، ويجر العراق معه إلى جيل آخر من الضياع والمراوحة والتراجع، في زمن تتضاعف فيه بطالة الشباب والمثقفين خاصةً.
أولى الأولويات هي تشغيل الشباب اللذين يبلغ عدد العاطلين عن العمل منهم قرابة عشرة ملايين نسبة عالية منهم من خريجي الجامعات والمعاهد. ويضاف لهم حوالي (800) ألف شاب وشابة يدخلون سوق العمل سنوياً. ما لم يجد النظام سبل لإستيعاب بعض هؤلاء سيحدث إنفجار إجتماعي – سياسي يربك أي تخطيط استراتيجي. أعلى نسبة تشغيل هي في قطاع البناء والإنشاءات سواء للإسكان أو البنى التحتية. هناك مساحات مهمة أفرزت في جميع المحافظات لبناء مدن ومجمعات سكنية. المطلوب اللجوء إلى الصين والقطاع الخاص المحلي لبناء مجمعات تتكلف الدولة بإيصال الماء والكهرباء والمجاري إلى حدودها، وتتحمل الدولة فوائد القروض لأغراض السكن، ويتم تقسيط التسديد للمصارف والمستثمرين على مدى 25-30 سنة. المجال الآخر للإستثمار عالي التشغيل هو الزراعة، وتحتاج الزراعة إلى ثورة على البيروقراطية لإطلاق هذا القطاع من عقاله لخلق قيمة مضافة وعمالة دون كلفة عالية على ميزانية الدولة.
في الأمد المتوسط ينبغي فسح المجال للإستثمار في المناطق الإقتصادية الخاصة وتشريع قانون يخرجها من فساد الحكومة الإتحادية والحكومات المحلية على النمط المطبق في الصين وشرق آسيا. ومن أهم المناطق الإقتصادية الخاصة هو ميناء البصرة الكبير والمناطق المحيطة به والطريق (سكك سريعة وطرق محورية) إلى تركيا وأوروبا (الميناء الجاف).
على الحكومة الحالية سد "البؤر السوداء" الّتي تبتلع أموال الدولة والإقتصاد الوطني ومنها:
1- ضبط الحدود وجباية الكمارك لتكوين موارد للدولة لا تقل عن (15) مليار دولار، وحماية المنتج المحلي.
2- إنهاء دعم المنتجات النفطية (وأسعارها الآن متدنية عالمياً) وبيع النفط الخام إلى المصافي المحلية والاستهلاك الداخلي بسعر التصدير مطروح منه فرق النقل وحافز بسيط للمستثمر المحلي (المصافي الحكومية وغيرها).
3- حصر عقارات الدولة وبيع قسم منها واستثمار الباقي في القطاع الخاص.
4- جباية الكهرباء وبما يعادل كلفتها البالغة (12) مليار دولار مع مراعاة صغار المستهلكين بتعريفة تصاعدية.
5- إنهاء البطاقة التموينية وإنهاء الفساد المرافق لها، ودعم الخبز بنظام مبسط.
6- إحالة النشاطات والشركات الحكومية (جميعها) إلى القطاع الخاص والشراكة مع القطاع العام، وبيع الخاسر منها بالمزايدة. ويشمل ذلك بيع جميع محطات تجهيز الوقود الحكومية، على أن يفسح المجال للإستثمار الأجنبي والمحلي.
7- تشغيل الموانئ والخطوط الجوية وسكك الحديد بالشراكة مع القطاع الخاص، على أن تكون الإدارة بيد القطاع الخاص، سواءً كان أجنبي أو محلي.
8- جباية الخدمات البلدية من طرق ومجاري ونفايات وماء والخدمات البلدية الأخرى بالكلفة.
وهناك في التجارب العالمية والإقليمية ما يمكن الإسترشاد به لخلق تنمية مستدامة دون الحاجة للجوء إلى موارد الحكومة.
الخطوة الثانية هي البدء بتفكيك جذور ومنطلقات الدولة الريعية، والإنتقال إلى دولة الإنتاج. إبتداءً من موازنة 2021 يمكن وضع الأسس لتقليص إعتماد الموازنة العامة على واردات النفط* .
من حيث المبدأ بالإمكان تحويل جميع واردات النفط والعاز إلى "صندوق المواطن"، وتأسيس حساب جانبي من صندوق المواطن يحصن من تدخلات السلطة التنفيذية ويسمى "حساب الأجيال". أما ما تبقى من صندوق المواطن فيكون خاضع للضريبة بموجب الموازنة السنوية. بالإمكان التعامل مع صندوق المواطن وحساب الأجيال بشكل تدريجي ومرن، وتصاعدي على ضوء تطور واردات الدولة الغير بترولية. إبتداءً من موازنة 2021 بالإمكان تخصيص 5% من واردات البترول إلى حساب الأجيال، على أن تتصاعد هذه النسبة سنوياً حتى تصل إلى 10%.
أما بقية صندوق المواطن فبالإمكان أن يخضع إلى ضريبة تبلغ (70%- 80%) في السنة الأولى وتتقلص على ضوء موارد الدولة الأخرى، حتى يصبح هذا الحساب التراكمي 50% للمواطن و50% للإستثمار، ولا يبقى في هذا الحساب حصة للموازنة التشغيلية للحكومة. ويتكون الحساب، سواء حساب الأجيال أو متراكم حساب المواطن من أسهم لكل عراقي من الولادة، ولا يورث ذلك السهم ولا يباع، ويتم الصرف منه للمواطنين بالتساوي بموجب الموازنة السنوية العامة للدولة، أو بتشريع خاص لإدارة هذه الحسابات.
الأولوية الثالثة هي التصفية التدريجية للبطالة المقنعة في الملاكات الوظيفية في الدولة، سواءً في الحكومة الإتحادية أو في الإقليم والمحافظات. يتم ذلك على خطوات أولها وضع نظام ضمان إجتماعي شامل يساوي بين تقاعد الموظف الحكومي والإستحقاق التقاعدي للقطاع الخاص وكذلك العاطلين عن العمل أو التشغيل الذاتي. ويغطى هذا النظام بمساهمات في صناديق يشارك فيها المشتغل والمشغل سواء كان حكومة أو شركة أو مشغل خاص وحتى المشغل الذاتي. وللخلاص التدريجي من ترهل ملاكات الحكومات وتشجيع الهجرة من الحكومة إلى القطاع الخاص، لا بد أن تكون إمتيازات القطاع الخاص مثل أو أفضل من إمتيازات الحكومات.
الخطوة الرابعة تنطلق من مواكبة الإنتقال العالمي من المجتمع المادي إلى المجتمع الرقمي. وهذا يتطلب تأسيس وزارة أو هيئة عامة للذكاء الإصطناعي والإنتقال الرقمي، تعمل على رعاية البحث والتطوير في هذه المجالات، والتعجيل بالإنتقال بسعات الإنترنت إلى الجيل الخامس، وتعميم الجيل الرابع على شركات الإتصالات. وهذا يفترض إنتقال العمل الحكومي إلى التعامل الإلكتروني، والإنتقال بالتعليم في كل مراحله إلى العالم الرقمي والسايبراني.
في مجال النفط والغاز ينبغي تشريع قانون شركة النفط الوطنية كشخصية معنوية مستقلة، وتكون هي والشركات العاملة بعقود منفذين ومشغلين، وتكون الوزارة منظمة وضامنة للمصالح العليا للدولة، على أساس الفصل بين التشغيل والإشراف. ولضمان نجاح العراق في دخول مرحلة إنكماش الطلب العالمي على النفط، تكون الاستراتيجية العامة لقطاع النفط وفق المبادئ التالية:
1- وضع حد متسارع لحرق الغاز بهدف استعمال الغاز المصاحب في الطاقة الكهربائية وفي البتروكيمياويات، بالإضافة إلى الإستثمار في حقول الغاز الجاف لنفس الغرض.
2- إستكشاف جميع التراكيب المحتملة للنفط والغاز، ووضع خطط لتطوير الحقول النفطية والغازية حسب تراتبيتها في كلف الإنتاج والتطوير.
3- التعاون مع المستثمرين في الصناعات التحويلية من تصفية وبتروكيمياويات وأسمدة وغيرها من الصناعات ذات القيمة المضافة للإقتصاد.
في مجال الطاقة، يفضل أن يكون هناك تكامل بين وزارة النفط والكهرباء وفق الأولويات التالية:
1- توفير الغاز لإنتاج الكهرباء، والتسريع بإستثمار الدورة المركبة، والعمل على رفع كفائة المنظومة الكهربائية للحد من الضائعات الفنية والتشغيلية إلى المستويات المقبولة عالمياً.
2- تنفيذ خطة متسارعة للإستثمار في الطاقة الشمسية بالتعاون مع أفضل الشركات في الصين وفي السعودية والإمارات لأن تكون نسبة الطاقة الشمسية في المنظومة عام 2030 بما لا يقل عن 30% من الإنتاج.
3- وضع استراتيجية نفطية تهدف للتكامل مع أسواق النفط والمنتجات النفطية والغازية في الصين والهند وبقية الدول المستهلكة في شرق آسيا لضمان بقاء الصادرات العراقية في هذه الأسواق على ضوء اضمحلال الطلب في أماكن أخرى من العالم.
4- إنهاء إلتزام العراق بتخفيض الإنتاج ضمن إتفاق (أوبك بلاس) في نهاية 2020.
5- إعادة التفاوض مع الشركات العاملة بموجب عقود التراخيص على أساس تحمل حاملي التراخيص كلفة الإستثمار لما يتجاوز الطاقة الإنتاجية لعام 2019 والعمل بمبدأ المشاركة بالإنتاج للطاقات الإنتاجية الإضافية.
6- تفعيل الإتفاق العام مع الصين والتعجيل بإشراك الحكومة الصينية والشركات الصينية العامة والخاصة في عمليات الإستثمار في مشاريع الإسكان والبنى التحتية، والسعي لعقد إتفاقيات تكاملية مع الهند وكوريا وأندونيسيا لإشراك القطاع الخاص فيهما في الإستثمار في العراق مقابل صادرات النفط الخام إليهما.
في مجال السياسة الخارجية، ينبغي إخضاع استراتيجية العراق إلى مصالحه الإقتصادية والتجارية مع الأخذ بنظر الإعتبار أهمية الصين والهند وشرق آسيا في موازين القوى المستقبلية. وفي السياسات الإقليمية مع دول الجوار يكون محرك السياسة الخارجية هو المصالح المتبادلة وإحترام الإحتياجات المائية مع تركيا وإيران، وإشراك السعودية ودول الخليج في الإحتياجات الإستثمارية والتجارية للعراق، وإشراك مصر لخلق توازنات إقليمية تجنب العراق أي صراعات مستقبلية، والسعي لإيجاد تحالف إقليمي مبني على المصالح الإقتصادية المتبادلة ضمن ترتيبات أمنية مستدامة تشمل كل دول الجوار والإقليم دون إستثناء.
وللعمل على الإصلاح الإداري والحد من الفساد والسعي لتوفير بيئة استثمارية جاذبة، ينبغي إتباع الخطوات التالية:
1- تشكيل هيئة مركزية للعقود الحكومية لما يتجاوز ربع مليون دولار، والسعي لشمول الإقليم والمحافظات بقرارات تلك الهيئة.
2- إلغاء دائرة مسجل الشركات في وزارة التجارة وإناطة تأسيس الشركات بمكاتب محامين مجازين يتعاملون مع قاعدة معلومات مركزية في هيئة الإستثمار.
3- إلغاء دائرة تصنيف الشركات في وزارة التخطيط وإعتماد الأعمال المماثلة بالنسبة للشركات المحلية والأجنبية.
4- إلزام هيئة الضرائب بإعتماد ميزانية الشركات بجميع أصنافها لأغراض ضريبة الدخل، مع القيام بتدقيقات عشوائية للحد من المخالفات ومحاسبة المدراء المفوضين ومدققي حسابات الشركات وفقاً للقانون.
5- إيجاد نافذة واحدة لكل المستثمرين في جميع القطاعات، وإنهاء تعامل الجهات القطاعية مع المستثمرين وحصر تعامل المستثمرين مع النافذة الموحدة، وفق مدد زمنية محددة وضوابط شفافة معلنة، وإعتماد السبل الإلكترونية لإنجاز معاملات المستثمرين.
6- يخضع المستثمرين في المناطق الإقتصادية الخاصة لقوانين وضوابط خاصة تعتمد أحدث المعايير الدولية، خارج البيروقراطية التقليدية للحكومات الإتحادية والمحلية، مع توحيد هذه الضوابط مع الإقليم.
هذه أفكار لا بد من إعتبارها طروحات أولية، رغم أنها تعكس تجربة شخصية عملية ونظرية، ودعاني للتعجيل بطرحها هو إمكانية تفكيك متلازمة "الريع/ الدكتاتورية/ الفشل" بعد تراجع أسعار النفط وإحتمال تراجع الطلب على النفط عالمياً.
• عدنان الجنابي، الخلاص من الدولة الريعية، 2016، مركز البحوث والدراسات العراقية، mobdii.org.