مشكلة النزاهة في العراق / 2008
المطروح هنا هو الفساد المالي والاداري (الحكم الرشيد، الحوكمة) بقدر تعلق الأمر بالدولة.
جذور الفساد في العراق
ثقافي، حضاري، تاريخي
المال العالم حلال «المال السائب ليس له صاحب»، الدولة غير شرعية وهي مغتصبة ومالها حلال.
- الدولة العثمانية غير شرعية (الشيعة) مغتصبة ومعتدية (البدو والمجتمعات الرعوية)، ولاتها غرباء فاسدون يجبون المال لحاكم لا يعرفون عنه شيء، ويأخذون أبنائهم للموت في حروب لا يعرفون اماكنها ولا أهدافها.
- الحكم الملكي ولد تحت الاحتلال البريطاني، ودولته غير شرعية (الشيعة) واستعماري (التحرريون والمثقفون). ولم تنجح الدولة في تثبيت شرعيتها بالكامل، ولم تنجح في بث مفهوم وطني للمال العام. وقيام الثورات والانقلابات جعل فئات مهمة من المجتمع في مجابهة مع الدولة والمال العام.
- الاحتلال خلط الأوراق جميعها وألغى الدولة، وبدد المال العام وشجع استباحة الآثار وأسلحة الدولة ووثائقها. كما وقضى الاحتلال على آخر الحواجز الأخلاقية والأدبية لإباحة المال العام بطريقة تعامله بالمال مع المواطنين، وإلغاء الحواجز النفسية بين ما هو للمحتمل وما هو للعراق.
ضعف القضاء والشرطة
«من أمن العقاب أساء الأدب». منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى ثورة 1958، كان القضاء ضعيف والشرطة فاسدة والمحسوبية مستشرية. وبالتالي كانت النزاهة نادرة بين موظفي الدولة على كل المستويات. وبعد ثورة 1958 تعاقبت أنظمة شجعت الصراعات الفئوية، التي جعلت الوطنية (الولاء للعراق)، تأتي بعد الولاء الايديولوجي، العشائري القومي، الديني. كما ان تسلط العسكريين والحزبيين جعلهم فوق القانون. وبالتالي فوق القضاء والشرطة.
حجم الفساد المالي
يقدر الفساد المالي بما يقارب 25٪ من المال العام، سواء بالسرقة المباشرة أو سوء الاستعمال والتبذير. سوء استعمال المال لادارة بريمر موثق ومعروف سواء بالنسبة للأموال الأميركية أو ايرادات الدولة العراقية (حوالي 20 مليار دولار) أو متبقيات صندوق اعمار العراق لدى الأمم المتحدة (أكثر من 7 مليار دولار). ويستمر الفضائح الى يومنا هذا.
ما هي أهم فقرات التلاعب بالأموال حالياً؟
أولاً: قطاع النفط
1 - نفط خام ينتج، ويخرج من الحساب. سواء بالتهريب (عن طريق شط العرب الى ايران والخليج) والتلاعب بعدادات التصدير ووثائقها.
2 - نفط خام يجهز الى المصافي، ولا يدخل في الحسابات.
3 - منتجات تهرب من المصافي مباشرة نتيجة وجود نفط خام مجهز دون توثيق أو نقص في الكميات. يسجل اعتباره هدر نتاج عن تخريب الانابيب، أو بادعاء حوادث تخريب وسرقة من قبل عصابات على خطوط التجهيز.
4 - منتجات تسرق من انابيب نقل المنتجات على شكل فتحات منظمة على الانابيب الناقلة في مختلفة المراحل.
5 - منتجات تخرج من المستودعات الاستراتيجية دون توثيق أو بتوثيق مزور.
6 - تخريب أو سرقة أو تسهيل سرقة على كل شبكة التوزيع وحتى محطات التعبئة.
7 - التلاعب بالمنتجات المستوردة بما يعادل 50٪ من قيمتها احياناً:
- أسعار مجحفة
- كميات تدفع اقيامها وتسجيل مستلمة وهي لم تورد.
- تهريب منتجات بعد وصولها واعادتها التي مناشئها، وتزويدها عدة مرات بوثائق مزورة.
ثانياً: قطاع المقاولات
1 - مقاولات وهمية، تحال وتصرف تخصيصاتها دون أن يكون هناك أي عمل منفذ.
2 - مقاولات تنفذ بأكثر من قيمتها.
3 - عمولات للجهات المعنية بنسب تتجاوز غالباً 10٪، ومن الملاحظ أن الفساد المالي في المحافظات أخذ يتجاوز في مداه الفساد المستشري في الحكومة الاتحادية، مع الزيادات الكبيرة في تخصيصات المحافظات التي لا يوجد فيها جهاز محاسبي أو رقابي مناسب.
ثالثا: قطاع التجارة
تستورد الدولة موادا غذائية وأدوية وأسلحة وتجهيزات تتراوح بين 10 و20 مليار دولار سنوياً. وهناك عصابات منظمة أصبحت تدير هذه المستوردات بشكل يتكيف مع المتغيرات وتحولت هذه العصابات الى المؤسسات أقوى من مؤسسات الدولة نفسها.
رابعاً: الرشوة العادية
الكل يعرف ان كل معاملة في الدولة يمكن ان تشترى بالرشوة. فجواز السفر ابتدأت تسعيرته بألفي دولار وانتهت بخمسمائة دولار للجواز الواحد (كم جواز أصدرت الدولة؟) والحصول على وظيفة له تسعيرة، وحتى الذهاب الى الحج له تسعيرة!
علاج ظاهرة الفساد المالي والاداري
الدولة الريعية (التي لها موارد مثل النفط) تستسهل التغاضي عن المال العام، وتشتري سلطتها من المواطن بأنواع من «الرشوة» - رواتب عالية، جهاز دولة متضخم خدمات مجانية، ورشوات نقدية علنية وسرية.
وبالتالي فإن معالجة الفساد في الدولة التي تعيش على جباية الضرائب من المواطن أسهل من معالجته في الدولة الريعية. فالمواطن الذي يدفع الضريبية يهمه مراقبة ومحاسبة الدولة أما مواطن الدولة الريعية فيتسابق مع الآخرين لكسب أونهب حصته من المال العام. ومع ذلك فهناك خطوات يمكن اتباعها لتحسين الحوكمة وتقليل الفساد:
أولا:
ابعاد الدولة، والموظف العمومي، قدر الإمكان عن التصرف التقديري (الكيفي) بالمال العام.
ثانيا:
تقوية ودعم القضاء، وبناء جهاز شرطة سليم. وان كان القضاء أساس النظام، وبالإمكان اصلاحه مع مرور الزمن، فإن اصلاح جهاز الشرطة هو أكثر استعصاء في العراق بعد أن تحول جهاز الشرطة الى عصابات وميليشيات. فالأمر يحتاج الى نفس طويل وعمل دؤوب.
ثالثاً:
اشراك المجتمع المدني ومؤسساته في الرقابة على الدولة وخاصة ما يتعلق بالمال العام من خلال الشفافية ونشر المعلومات والاستفادة من الانترنت (الحكومة الالكترونية وغيرها) في هذا المجال.
ابعاد الدولة عن التصرف التقديري بالمال العام
من بين الخطوات الأربع لمجابهة الفساد المالي والاداري، فإن أسهلها وأكثرها واقعية في إمكانية التطبيق، هي الاجراءات الادارية والمالية، التشريعية والتنفيذية، التي تهدف بوعي وصرامة الى إبعاد الموظف العمومي عن التصرف التقديري بالمال العام.
أولا:
اخراج الدولة من الحلقات التجارية والأنشطة الاقتصادية. وهذا قد يتعارض مع توفير الدعم للمواطن مثل دعم البطاقة التموينية ودعم المنتجات النفطية. وبالتالي لا بد من التدرج في هذا المجال. فإن الغاز المجهز لمحطات الكهرباء ليس من السهل تهريبه أو سرقته. وبالتالي بالإمكان توفيره مجانا دون الخوف من التلاعب فيه. كما ان الغاز لاغراض الطبخ والكيروسين لاغراض التدفئة يمكن اضافته الى البطاقة التموينية بدون مقابل. ويمكن تحويل البطاقة التموينية الى حقوق نقدية تشترى مفرداتها من القطاع الخاص واخراج الدولة منها أو حصرها في الفئات الأكثر احتياجاً (شبكة الضمان الاجتماعي).
ويجب ملاحظة ان بعض الدعم غير عادل (مثل دعم البنزين) ولا يصل الى المواطن اصلا. فما داعي الإبقاء عليه بيد موظفين يسرقونه وارهاب يتمول به، ودول جوار تعم بنتائجه.
على الدولة ان تخرج تدريجيا من النشاط التجاري - الاقتصادي، وخاصة الحلقات التي فيها تصرف بالمال، مثل المنتجات النفطية عدا الغاز والنفط الأبيض، والنشاطات المتعلقة بشركات القطاع العام. ويمكن ابقاء الدعم على الكهرباء (المشغلة بالغاز الطبيعي) والدواء والتعليم بكل مراحله.
والقاعدة العامة هنا هي إما أن يكون دعم الدولة كاملاً (بالمجان) أو يحال النشاط الى القطاع الخاص. أي اخراج الدولة من التداول بالمال في هذه الحالات.
ثانياً:
اخراج الموظفين العموميين من التصرف التقديري بالمقاولات، والتجهيزات وتحويلها من دون استثناء الى المناقصات والمزايدات التنافسية العلنية بشفافية تحت اشراف ديوان الرقابة المالية ومن خلال وسائل الاعلام والانترنت.
ثالثا:
تحويل اجهزة الدولة التي تتعامل بالمال العام الى وحدات محاسبية مستقلة تكون كل منها مسؤولة عن تسديد التزاماتها بشكل مستقل. فالمصافي تشتري النفط الخام بسعر التصدير، وتبيع المنتجات الى شركات التوزيع بالسعر التجاري، وشركات وادارات المحطات تبيع بالسعر التجاري او على البطاقة القابلة للصرف من جهات مخولة من وزارة المالية (التي تكون المسؤول النهائي عن مبالغ الدعم). وكذلك الحال بالنسبة للكهرباء، فشركات التوليد تبيع الى التوزيع، والتوزيع تبيع الى شركات الجباية المحلية. وكل وحدة محاسبية تعرف ربحها وخسارتها وحجم السرقات منها لتحديد المسؤولية وتسهيلا للرقابة. فإن حصر المسؤولية يحدد جهة السرقة أو الهدر. كما ان الدولة ستتعرف بدقة على حجم الدعم الذي تقدمه بأسعاره الحقيقية.
رابعاً:
دعم جهاز ديوان الرقابة المالية وتنشيط دوره في الاقاليم والمحافظات، واعادة هيكلة هيئة النزاهة وربط المفتشين العاملين بها بدل الوزير المختص، وابعادها عن التسييس.