الاتفاقيات العراقية البريطانية 1922 ــ 1927
كان من نتائج الثورة العراقية (ثورة العشرين المجيدة) التي قامت بها العشائر العراقية ضد الاحتلال البريطاني في حزيران من عام 1920 أن أجبرته على الإسراع بالاعتراف بحق العراق في السيادة والاستقلال واتخاذ الإجراءات و الترتيبات اللازمة لإعلان العراق دولة مستقلة ذات سيادة ، ولو في الظاهر على الأقل ، حيث لم تألُ الحكومة البريطانية جهدا" للالتفاف على ما حققته ثورة العشرين من نتائج وصل تأثيرها إلى البرلمان البريطاني .
تقاطع النوايا
سارع العاهل البريطاني الملك جورج إلى الإشارة إلى نية بريطانيا في عقد معاهدة تحالف مع العراق في برقية التهنئة التي بعثها إلى الملك فيصل بن الحسين بمناسبة تنصيبه ملكا" على العراق يوم 23 آب 1921.
وبناءا" على ذلك شرعت الوزارة النقيبية الثانية بمفاوضات مع المعتمد السامي البريطاني (السير برسي زكريا كوكس ) لغرض عقد معاهدة تحالف عراقية بريطانية ترمي بريطانيا من ورائها الى تغيير مركزها القانوني في العراق من شكل (انتداب) صريح إلى (تحالف) توافق عليه عصبة الأمم.
وقد قدمت الحكومة البريطانية إلى الحكومة العراقية مسودة مشروع المعاهدة تضمن سبع عشرة مادة جوبهت برفض الرأي العام العراقي على أساس أن هذه البنود تستبطن الانتداب البريطاني على العراق وان لم يذكر فيها اسمه في حين سعت بريطانيا إلى تهيئة بيئة ملائمة للمفاوضات مع الحكومة العراقية تميزت بزيادة الضغوط على الحكومة العراقية عبر تعقيد مشاكلها مع دول الجوار مثل تركيا والسعودية ، في حين كانت حكومة عبدالرحمن النقيب تسعى إلى إبرام معاهدة مع بريطانيا على أسس التحالف تضمن مصالح العموم وتنهي الانتداب من خلال السعي لإجراء بعض التعديلات على مواد معينة من مسودة التفاوض التي اقترحتها الحكومة البريطانية .
الأمر الذي عكس عمق الاختلافات في وجهات النظر داخل الحكومة العراقية نفسها استقال على إثرها عدد من الوزراء كان من أبرزهم جعفر أبو ألتمن وزير التجارة ووزير الداخلية توفيق الخالدي ووزير الدفاع جعفر العسكري.
معاهدة سنة 1922م
بعد مفاوضات معقدة بين الوفد المفاوض العراقي والوفد المفاوض البريطاني وقعت معاهدة التحالف العراقية البريطانية في 10 تشرين الأول 1922م حيث وقعها عن الجانب العراقي رئيس الوزراء السيد (عبد الرحمن النقيب) وعن الجانب البريطاني المندوب السامي (برسي كوكس) .
و حين نشرها في لندن في نفس اليوم وزير المستعمرات البريطاني المستر تشرشل قام بشرح مفصل للصعوبات التي اكتنفت التوصل إلى هذه المعاهدة التي استبدلت بصك الانتداب ، والفرق في الترتيب التعاهدي الذي توصل إليه العراق وبريطانيا وذلك الذي فرضته عصبة الأمم عبر صك الانتداب وقد نصت المواد (2 و 7 و9 و 15) من المعاهدة على عقد اتفاقيات عسكرية ومالية وعدلية(قضائية) واتفاقية لضبط وتنظيم استخدام الموظفين البريطانيين في العراق إلا أن المعارضة الشعبية لبنود هذه المعاهدة أجبرت الحكومتين العراقية والبريطانية في أيار 1923م على عقد بروتوكول خفض مدة المعاهدة من عشرين سنة إلى أربع سنوات والاتفاق على الشروع بعقد الاتفاقية العسكرية بين البلدين.
الاتفاقيةالعسكرية
استنادا" إلى معاهدة 1922 تقدم المندوب السامي البريطاني في كانون الثاني 1924م بمسودة مشروع الاتفاقية العسكرية المنوي عقدها بين العراق وبريطانيا وتضمنت(11) مادة واستمرت المفاوضات بشأنها إلى جانب المفاوضات بشان الاتفاقيات العدلية والمالية والموظفين البريطانيين حيث تم التوقيع على جمع تلك الاتفاقيات في 25 آذار 1924م اتسمت بسيطرة وإشراف بريطانيين على الشؤون المالية والعسكرية والقضائية العراقية للأربع سنوات المقبلة وقد وقع الاتفاقيات رئيس الوزراء آن ذاك الزعيم (العميد) جعفر العسكري ووزير الدفاع وكيل القائد العام العقيد نوري السعيد في حين وقعها عن الجانب البريطاني المندوب السامي البريطاني (السير هنري دوبس)ولفتنت كولونيل (كرتل جوبس) المستشار في وزارة الدفاع .
وكان رئيس الوزراء العراقي جعفر العسكري وغيره من الساسة العراقيين يعتقدون أن التوقيع على مثل هذه المعاهدات ضروري لتامين استقلال العراق الناجز ودعم موقف العراق في سعيه لحسم مشاكل الحدود مع دول الجوار كما أن معظم ساسة العراق كانوا يؤمنون بان (الأمم والشعوب لا تتمكن من الحياة والعمل بدون أن يوجد بينها وبين سائر الأمم والشعوب تساند متقابل لان الحياة المستقلة ليست الحياة المنقطعة من الأمم السائرة..) بحسب تصريح جعفر العسكري في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 31/3/1924.
تعديل الاتفاقيات
وبعد أن دخلت المعاهدة والاتفاقيات الملحقة بها حيز التنفيذ في كانون الأول 1924م شرع العراق بطرح المشاكل الناجمة عن تطبيق وتنفيذ المعاهدة والاتفاقيات الملحقة بها على الجانب البريطاني بكل تفصيل وصراحة وجرت عدة لقاءات وتبادل عدد من الرسائل بين الحكومتين العراقية والبريطانية عبرت جميعها عن رغبة العراق بشان تعديل تلك الاتفاقيات وقاد هذا التوجه رئيس الوزراء العراقي آن ذاك السيد (عبد المحسن السعدون) الذي اضطر إلى تقديم استقالته إلى الملك فيصل في 9/1/1926م من اجل الضغط باتجاه تعديل اتفاقيات معاهدة 1922م .
وقد توصل الساسة العراقيون إلى رأي مفاده ما يأتي( مهما خففنا بنودالمعاهدة والاتفاقية العسكرية وأجرينا فيها التعديلات فلا يمكن أن تتأسس الحكومة العراقية وتنهض على أسس متينة ما لم تأخذ بعين الاعتبار نمو جيشها الوطني وتقويته ، ...) لذلك قرر مجلس الوزراء العراقي في 28 تشرين الثاني 1926 النظر في تعديلا لاتفاقيتين العسكرية والمالية وكلف وزير المالية ياسين الهاشمي ووزير الدفاع نوري السعيد بالشروع في مفاوضات تعديل الاتفاقيتين المذكورتين.
اتفاقية عام 1927
بدأ الجانبان العراقي والبريطاني مفاوضات تعديل معاهدة 1922م في (بغداد ) منذ آذار 1927ثم انتقلت المفاوضات إلى (لندن) لتفتتح بشكل رسمي في تشرين الأول 1927باشراف (الملك فيصل) وإدارة جعفر العسكري وبعد مفاوضات عسيرة مع البريطانيين تولدت قناعة لدى جعفر العسكري بان البريطانيين ليسوا جادين في تنمية وتطوير الجيش العراقي وان مشروع المعاهدة الجديدة هو دون المعاهدة السابقة ، ولإظهار عدم رضاه عن سير المفاوضات غادر لندن في نهاية تشرين الثاني 1927م عن طريق البحر إلى مصر لإعطاء (الملك فيصل) قدرا" من القدرة على الضغط والتحرك لحسم الموضوع.
لذلك أدت المشاورات التي أجراها الملك فيصل مع (تشرشل) وآخرين دورا" في تسهيل الوصول إلى اتفاق على مسودة المعاهدة الجديدة التي وقعها (جعفر العسكري) اثر عودته إلى( لندن) بطلب من الملك فيصل في 14كانون الأول 1927م التي قبلها مجلس الوزراء العراقي في 20كانونالأول 1927 م على اعتبار أنها تحتوي على اعتراف الحكومة البريطانية الصريح باستقلال العراق وبسيادته وبخلوها من القيود الكثيرة والعراقيل الموجودة في الاتفاقيتين السابقتين (العسكرية والمالية) وباحتوائها على تعهد صريح بمعاضدة الحكومة البريطانية لدخول العراق في عصبة الأمم سنة 1932 وبإلغائها المعاهدتين السابقتين وتركها حق التمثيل الخارجي السياسي (الدبلوماسي) حرا" غير مقيد ، مع الإشارة إلى التحفظ الذي أبداه الوفد العراقي في شان عصبة الأمم (المادة 6) من المعاهدة بمايتضمن (أن الحكومة العراقية لم تعترف بالمادة 22 من عهد الأمم الباحثة عن الانتداب، ولا بأية صلة بينها وبين الحكومة البريطانية غير صلة الصداقة المعبر عنها في المعاهدة الجديدة ، ) مع الإشارة إلى تصريح الوفد البريطاني بقبول هذا الأساس.
الخلاصة
خلاصة القول أن المعاهدات والاتفاقيات التي جرى التفاوض بشأنها وتوقيعها بين العراق وبريطانيا بين عام 1922م و عام 1927 م لم تستوعب أو تحقق للعراق ما كان المفاوضون العراقيون يطمحون لتحقيقه لبلدهم لذلك استمرت اللقاءات وتبادل المذكرات في بغداد بين العراق وبريطانيا لحل المسائل الخلافية الناجمة عن تطبيق وتنفيذ ما تم التوقيع عليه .
كما استمرت الحكومات العراقية المتعاقبة في السعي من اجل إبرام اتفاقيات أخرى تحقق للعراق وشعبه ما يحقق مصالحه الحقيقية كدولة مستقلة ذات سيادة